ما إن تنتهي جولة من صراع إثبات الوجود والهوية الفلسطيني ، حتى تُمهد لجولةٍ أخرى تلحقها سوف يُعبر بها الفلسطينيون عن هويتهم ووجودهم أكثر من الجولة التي سبقتها، الفاتورة باهظة نعم والدمار كبير، ولكن الرسالة وصلت تُجاه ما حدث في حي الشيخ جرَّاح في القدس من محاولة تهجير أهلها وأصحابها، ومن انتهاك حُرمة المسجد الأقصى المُبارك من اقتحام المسجد القِبلي وتدنيس المقدسات، في مشهد غير مسبوق من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ليس بغريب على محتل غاشم كالكيان الصهيوني، رسالة هذه الجولة مميزة جِدًّا مقارنةً بكل الرسائل التي بعثت بها غزَّة الصمود في ما مضى من حروب وجولات، هذه المرة وقف أبناء القطاع المُحاصر – منذ أكثر من عشر سنين – فوق أنقاض بيوتهم المهدَّمة ليزفوا الرسالة الأهم، أن أي اعتداء على جزء من أجزاء فلسطين التاريخية، هو اعتداء على كل الفلسطينيين، وأن الشعب الفلسطيني بمختلف ميوله ومنابعه يلتفُ يومًا بعد يوم مع المقاومة التي تدافع لا عن شرف فلسطين فحسب، بل عما تبقى من شرف الأمة كاملة ضد أحد أقوى جيوش المنطقة والعالم.

انتصار المقاومة هو انتصار الأمتين، العربية والإسلامية على حدٍ سواء، ولأول مرة يخسر الاحتلال الحرب الإعلامية العالمية والصف الجماهيري على أكبر المستويات، كما نجحت كالعادة المقاومة في الذود عن قطاع غزة أولًا، وشلّ حياة واقتصاد الاحتلال ثانيًا لعشرة أيام متواصلة، ثالثًا نجح في كي الوعي الإسرائيلي وإحياء الوعي الفلسطيني بالمقابل رغم عدم تكافؤ المعركة عددًا وعدةً. العلم الفلسطيني لأول مرة منذ عشرات السنين بعد النكبات والنكسات، يرفرف من النهر وحتى البحر، أقاليم القدس وغزة والضفة الغربية والداخل المُحتل تتحد أكثر من أي وقت مضى ضد الدخيل المستوطن رغم تشعُّب المناطق بسبب الحواجز والسياسات المتبعة محاولةً تمزيق المناطق والجماعات، فاعتداء المستوطنين في حي الشيخ جراح قد أشعل المقدسيين قبل أن تشتعل الشوارع في مدن الضفة وشوارع اللّد والرملة والنقب وغيرها الكثير من مناطق الداخل حيث لم تعد هناك منطقة محتلة داخل الخط الأخضر إلا وشهدت مظاهرات ومواجهات في وجه الكيان المحتل الذي دفع ما دفع، وشرّع القوانين وكرّس المناهج منذ أكثر من خمسين عامًا، والتي تعمل على طمس الهوية الفلسطينية، من غير جدوى!

انتصرت المقاومة بما قامت من تضحيات كثيرة رغم حدود إمكانياتها، ورغم التثبيط من جهات كثيرة عربية وغير عربية، وما قامت به خلال العشرة أيام هو مجهود لم تقدر عليه جيوش عربية بأكملها ترزح تحت ذل اتفاقيات التطبيع والتسليم مع المحتل، ولا أدري ما حاجة الجيوش إن لم تدافع عن قضية الأمة الأولى، كما أثبتت الأحداث أن ثمة مقاومة على أعلى درجات التنظيم والحِنكة الحربية في مُجابهة المُحتل الذي لا ينفك أن يتباهى بقتل الأطفال والأبرياء والأطباء ويبتجح بانتصارات واهية لم تنل من إمكانيات المقاومة، بل بالعكس، أظهرت الفصائل خلال ست سنوات منذ آخر الحروب، تطورًا ملحوظًا في أسلحتها وقوتها، كشفت به قصور وضعف منظومة الجيش الذي لا يُقهر وترك قيادته العسكرية تتخبط وسط تعتيم إعلامها حول حقيقة خسائره، وترك تلك القيادة تخوض حربًا مع سكان دولة الاحتلال عقب فشلها الجديد في حرب غزة. فمن عايش المحتل أربعة حروب طاحنة في غزة هو أعلم كيف يستنزف إمكانياته وهو أدرى كيف يستهدف أمن وحياة إسرائيل ويضع أراضيه ومطاراته ضمن حدود أهدافه باليوم الذي يريد والساعة التي يريد.

الرسالة الثانية التي قرأناها من هذه الحرب، هي شمولية المعركة، وإدخال قواعد اشتباك جديدة لم تكن من قبل، فوسائل الجهاد والتعبير عن رفض الاقتحامات والاعتداءات أصبحت عديدة ومُجدية، فبجانب السلاح هناك من يخوض معاركه الخاصة الإعلامية على تطبيقات «إنستجرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وغيرها رغم التقييد والقمع، ولولا هذه الطرائق لم نكن لنرى أممية الاحتجاج بكل الأقطار العربية والمتباعدة على حد سواء، ولولا النشاط الإعلامي والإلكتروني ونشر المحتوى الفلسطيني لم نكن لنشهد انقسام لا يحدث عادة حول مُسلمات كانت فيما مضى تخص دعم الاحتلال الإسرائيلي غير المشروط، والتي أصبحت الآن موضع نقاش وإن كان الداعمون للاحتلال أكبر، فإنها مؤشر جديد للمستقبل وجبهة سوف يكون لها صوت لاحقًا.

لا يجب أن نُقصي هذه الوسائل مهما كانت رمزية ومهما كنا نختلف بعض الشيء مع بعض صورها، إلا أن الغاية واحدة، لا سيما أننا في زمن أصبحت فيه كلمة الحق ثقيلة والتضامن يُعد خطرًا قد يُحاسب عليه معظم المواطنين العرب في ظل وجود سقف تعبير محدد، وخنوع معظم السلطات لاتفاقيات التطبيع والتسليم. في زمنٍ كهذا، تصبح الكلمة قُنبلة مدوية، ونشر الصورة سِلاحًا لا تقل عن الرشاش الذي يحمله المقاوم وعن الصاروخ الموجه تجاه هدفٍ إسرائيلي، فبجانب الأهداف الميدانية المستهدفة، هناك أمم تجهل ما يحدث في الشيخ جراح وفي المسجد الأقصى، ولولا الحرب الإلكترونية ونشر المحتوى على رقعة أكبر، لما نهضت مدن ودول أعجمية متضامنة مع القضية الفلسطينية، وشمولية المعركة والتعبير عن الرفض بشتى الطرق والوسائل المشروعة تصنع تضامنًا أكبر وتحشد جمهورًا جديدًا يزيد من قوة الموقف ويُحرج موقف المُحتل وأذنابه.

الرسالة الثالثة وهي مصيدة دعم القضية الفلسطينية التي نصبتها جهات معينة مُهتمة بتفريق الصف وتبرير التطبيع مع المُحتل، فالقضية إقليمية وأممية، ليست حصرًا على أهلنا في فلسطين وليسوا أولى بها من أبناء الإسلام أو العروبة الآخرين في شتى أقطار البلاد، فدعم القضية بكل الطرق الممكنة حق على الجميع بشرط توجيه الدعم للجهات المستحقة، لا أن تُعطى لأهل الاتفاقيات والتنسيق والتسليم مع المُحتل، وقبل دعم القضية من عدمه، على أجيال هذه الأيام الحذر من سم مواقع وسائل التواصل الاجتماعي والمليئة بالآراء الدخيلة السطحية، وعلى الأجيال الجديدة أن تقرأ التاريخ جيدًا من مصدره الصحيح غير المحرف، أن تقرأ تقسيمات الوطن الفلسطيني رغم قلة مساحته، أن تقرأ عن هذا الشعب العظيم الصامد وتضحياته وكيف سُلبت أرضه، وكيف جرى قمعه منها، وكيف أن كل مدينة وحي داخل دولة الاحتلال المزعومة كانت يومًا ما حي الشيخ جراح. وحدهم الفاهمون حينها سيدعمون القضية سرًّا وعلانية عن ظهر قلب وعن اقتناع من غير منه ولا تبجح، أما حملات الشيطنة للداعمين والدعم بحجة أن أهل فلسطين باعوا الأرض فما هي إلا محاولات غربلة لما يحصل على الأرض، وهذه الانتفاضة لأكبر دليل على صمود أهل الأرض الأصليون باختلاف انتمائهم السياسي واختلاف أديانهم على أهمية التسليم بحقيقة أنهم أمة مثل الأمم، تحوي الصالح والطالح والمُجاهد والقاعد والمُجتهد والمُتخاذل.

المعركة لم تنته، فلسطين لم تتحرر بعد ، ما زال هذا المحتل يغِير على كل أرجاء الوطن، يُقطّع أوصاله ويغير وجه الحياة الفلسطينية ويقمع أهله كل يوم وكل ساعة، وسيعمل على امتصاص فرحة الشارع العارمة بحملة اعتقالات وتضييقات إضافية، وسيحاول الضغط للعودة إلى طاولة الحوار مجددًا. المعركة إذًا لم تنته، هي فقط البداية، بداية نهاية الاحتلال، سوف تبدأ الآن معركة جديدة يخوضها أبناء الداخل في دولة الاحتلال ضد حملة الاعتقالات والمحاكم والعقوبات التي سوف تُحاول أن تنال منهم بعد خروجهم للشارع ورفضهم الاقتحام والقمع في القدس وغزة، هناك حرب مُشابهة لأبناء الضفة الغربية ضد حملات اعتقالات تحدث يوميًّا في سبيل كسر إرادة وروح الشباب المُتحمس بما يضمن للمُحتل الغاصب عدم تكرار ما حصل في القدس والضفة وداخل أراضي الاحتلال من هبّة جماهيرية أثلجت الصدر.

المعركة مستمرة في شحذ همة الضفة الغربية القابعة تحت حُكم السلطة، وكأن حروب غزة تحصل كل خمس أو ست سنين كي تجدد الوعي الفلسطيني والعربي، والهدف هو إنهاء الانقسام، نستطيع الآن أن نرى وجوه أبناء الأجهزة الأمنية وهي خجولة من نفسها من جرّاء ما حصل من تخاذل تجاه غزة والقُدس، نستطيع أن نرى الآن غضب بعض أفرادها ومحاولاتهم الخجولة في ركوب موجة الانتفاضة والمقاومة رغم امتلاكهم سلاحًا كثيرًا، كما نرى أنه من الظلم اعتبار من في سلطة أوسلو فلسطينيين، ومن يُحارب في أنفاق غزة فلسطينيين كذلك، شتّان، وعليه، فعلى سلطة أوسلو والأجهزة في الضفة الغربية أن تكون فلسطينية ولو مرة، وأن تكون على قدر تطلعات هذا الجيل الذي لن يعود إلى الوراء، إلى أوسلو، وأن النصر والعودة لن يكونا بالتوجه إلى طاولة الحوار والتنسيق مع الغازي، وعليها أن تعلم أن من يقود المقاومة هو الحاكم الفعلي للسلطة وللقلوب الشعبية، ولتعلم أن ديباجة التظاهر من أجل صورة التظاهر وتوجيه فوّهة ونيران البنادق نحو السماء لم تعُد مقنعة، كما يجب أن يخجلوا من أنفسهم ويعلموا أن جنود الاحتلال ليسوا بالسماء بل هم ها هناك، على بُعد بضع أمتار منهم على حواجز مدن الضفة الغربية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد