«حنين مبعثر» عنوان لكتاب صدر حديثًا للكاتب اليمني والإعلامي الشاب حميد الرقيمي عن دار عناوين 2021، في 134 صفحة. مجموعة من 38 رسالة سطّرها المؤلف إلى الأم كرمز متعدد المساقط. حيث الرمز أشبه ما يكون بالمنشور الزجاجي يشتت الضوء ليسقطه طيفًا من المعاني المختلفة ذات العلاقة/ بالأم، الأرض، الوطن، الأسرة، الرفاق.

وهذه الرسائل كتبت لتصوّر اليوميات في المنافي، تضوّع الحنين المبعثر في المنافي، والمبعثر في أوجاع اليمن الذي كان سعيدا قبل أن يسقط في هوة الحرب، ومبعثر في وجدان المؤلف مما طرحه من هموم وآمال.

يقول في المدخل «أمي هذا أنا، أعود إليك من اللامكان، شجنًا ضارعًا أفتش عني وعن عالم كوجهك وقلبك، أُودِع كل هذا الشجن بين يديك كي لا ينفرط عقد الأبجدية».. فالمؤلف منذ المدخل يفصل الأم من الذات إلى الرمز (أمي هذا أنا) والمكان من المعرّف المعيّن إلى النكرة في بسيطة الجغرافيا (أعود إليك من اللامكان) ليتمثّل خطابه في/ رسائله/ يومياته.. ليعبّر عن الجيل اليمني المنزاح إلى المنافي من الوطن مشتتًا ومبعدًا في اللامكان/ كل جغرافيا خارج الوطن. فهي كتابة الرؤى وإن حملت بعض الرسائل سمة الذاتية كرسائل هي للأم، ولكنها لا تخلو من حديث عن القضايا اليمنية أيضا، وحياة اليمني خارج اليمن وما يقاسيه ويحس به. وهذا ما يصيّرها كتابة للهم العام في ثوب الذاتي الخاص.

وفي المدخل الثاني.. «لقد ذهبوا إلى الجنة يا أمي، لا تحزني، إنهم يتمشون الآن تحت أشجار مزهرة، ويتحدثون مع الملائكة وقد نسوا عذاباتهم كلها/ نيكوس كازانتزاكيس».. فإلى الأم تهوي مشاعر الفجيعة من المنافي حمّالة لاعتلاج الفقد وعبارات التعازي. عمل المؤلف كمراسل حربي في موطنه مما أتاح له أن يرى الحرب في ميادينها ويتابع أحداثها المدمرة فجاءت رسائله من المنافي نابضة ترمي عن بصيرة الرائي لما خلفه في الوطن، ومتفاعلة ملتاعة بمآل الداخل وآلام التشظّي في الخارج.

سأضع قبسات من بعض هذه الرسائل مع أن الاقتباس منها يظلم الكتاب لأن كل كلماته تستحق الاقتباس

في رسالة (ملامح وطن).. «أمي العزيزة… ونحن على نوافذ مطار القاهرة، لم تر هيئتي وأنا أقف أمام الموظف وفي يدي جواز سفر مُنهك يحمل في طياته 30 مليون يمني، كنت أتلفت كلص خوفًا من الرفض… لقد وقعنا في فخ الحرب، ذلك الفخ الذي نصبته أياد خبيثة لا تدرك قيمة الأوطان، ولكن هذا ما حدث، من منفى إلى منفى نحمل نعش حياتنا على أبواب تخاف قدومنا ونخاف رفضها».. استطاع المؤلف باقتدار في جملة رسائله عرض حالة الداخل اليمني والخارج اليمني الذي يمثلّه إنسان المنفي. فيعرض الحالة الوجدانية للمنفيين المبعدين عن الوطن بأدق التعابير التي نجحت حقا في نقل تلك الاهتزازات التي لا نلتقطها بسهولة لولا مثل هذه الكتابة الشفافة في حنين مبعثر.

 وفي رسالة (منفى آخر).. «أمي العزيزة… أكتب إليك من بلاد أخرى، من منفى آخر، من غرفة تنكرني وسرير يتأوه من ثقل حمولاتي، لا أعرف من أين أبدأ الحكاية، لكنني سأتوقف قليلًا مع خطواتي الأولى.. وصلت إلى القاهرة قبل أيام… ولكنني أيتها القريبة غارق في هذا الحزن المتسود على كل خطواتي، غارق في لحظات اليمني الأولى وهو ينفض عن ذاته غبار الخوف حتى يظهر أمام الآخرين بتأنقه المتجاسر على كل لحظة ألم، فنحن شعب المعجزات يا أمي، شعب عظيم لا يشبه إلا نفسه، يألف كل شيء وتألفه كل الأشياء، شعب يعرف جيدًا طريقة خلوده في أعماق كل الشعوب».

 وفي الرسالة الأثيرة (سوماني) العنوان المنحوت من اللفظين/ (سوداني – يمني) يكتب في يومياته «وصلت إلى السودان من جبهات القتال التي عملت على تغطية أحداثها والتي شكّلت شخصيتي بكل ما فيها من صلابة وهشاشة.. رأيت لحظتها الخرطوم فردوسا هادئًا غير مشوه بالحروب ولغة العنف… وجدت في الخرطوم ضالة الإنسان الطافح بالغيظ والهارب من ملامح الواقع الدامية».. وتمتد الرسالة في بنية سردية ليحكي عن مواقفه اليومية في الخرطوم.. «وقفت على أطراف الشارع، لم أكن حينها إلا كقشة تصارعها الحياة دون أن تجد مرساها الهادئ… كنت أتأمل المارة وبلادي تراقبني من خلف أعينهم، أردت معانقة كل سوداني يمر من جواري دون أن يقول شيئًا، دون أن يتذمر من مشرد اتخذ بلاده المتهالكة بجوعها وفقرها مسكنًا ووطنًا».

ثم يقرن الكاتب في رسالة (صديقي أيلول) بين ذكرى سبتمبر (أيلول) 1962 ذكرى تأسيس الجمهورية اليمنية، وبين توتي جزيرة مقرن النيلين.. فيجسّد أيلول كشخصية يحاورها في قالب سردي عن قضايا اليمن.. يقول الكاتب «أمي العزيزة.. أيلول بطل يمني وضع لي هذه الرسالة، ثم أخذني إلى عالمه العظيم. قد تبكيك هذه السردية قليلًا لكنها ملحمة من الشخصيات اليمنية التي ننتمي جميعًا إليها… دقائق معدودة تفصلني عن لقاء أيلول المجيد، يسكن في جزيرة توتي السودانية مع أسرته».

 ومع كل هذه الرسائل التي تبث أوجاع المنافي فالأمل حاضر في كل نواحي الرسائل رغم الأسى.. في رسالة (هل تراها مثلي؟) يضع الكاتب لبنات الأمل في هذه الرسالة التي شكّلها كقصة قصيرة:

«لن تجدني الآن هنا، سأغادرك روحًا، فكرًا، جسدًا، فقد وضعت فيك بذرة الخلاص من كل الأشياء التعيسة التي تأخذ الضعيف إلى هوانه وتبقي القوي في عنفوانه حتى الأبد، حتى الوصول إلى تلك القمة.. هل تراها مثلي؟

– لا أرى شيئًا!

– حاول مرة أخرى، ولا تدع اليأس يغطي عينيك.

ثم اختفى».

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد