برامج وأفلام ومواضيع متلاحقة وصفحات على مواقع التواصل والكل على نغمة واحدة لا تتغير محتواها هو الحنين الشديد للماضي؛ بصورة رومانسية أقرب للخيال المصنوع من مرجعية أفلام الخمسينيات أحيانًا أو المنسوج سياسيًا عن أوهام مشروع سياسي أفضل بعصر الملكية أحيانًا ومحبين النكسجية الناصريين أحيانًا أخرى!
استدعاء لصور علية القوم وهم يرتدون أفخم الملابس وتعليقات من قبيل “شفتوا مصر كانت أنيقة إزاى؟”
تلك النوستالجيا الخادعة التي تطل علينا مرتبطة بكل تلك الفترة تجعلنا في حالة حيرة شديدة هل فعلًا كانت مصر بديعة إلى هذا الحد الذي يجعل من الملكية وصورها حلمًا ومن أفلام العصر الذهبي للسينما مرجعية لنقل أحداث الشعب المصري وقتها؟
بالقطع إن الشعوب المرهقة من واقع أليم تتخيل أنها برجوعها لذكريات الماضي ستجد ما تفخر به لتستمر رغم شدة القبح الذي تقبع فيه، ولكن لم يعُد تزييف الماضي مقبولًا في عصر انتشار المعرفة والتفتيش في جذور التاريخ الحقيقي القديم قبل الحديث عنه؛
فكيف لكم أن تتخيلوا بأن تلك الصور لفتيات بشواطئ الإسكندرية في الأربعينيات تمثل رفاهية الشعب وجماله وقتها؛ وهم جميعًا فتيات من أبناء طبقة البشوات والجاليات الأجنبية المحتلة لاقتصاد مصر آنذاك والتي تصنع حياة غربية متكاملة لها على أرضنا بينما يرضخ الشعب المصري في عمومه تحت الأوبئة والفقر والسخرة والبطش.
فمن يتخيل أن مصر ما بعد الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها آلاف المصريين في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وبعد عصور الإذلال والاحتلال وحفر القناة بالسخرة لصالح المحتل، بعد كل ذلك يتخيلوا بأنها كانت واحة جميلة يود المجتمع أن يعود إليها فهذا جهل بتاريخ معاناة تلك البلد البائس تحت نيران الاحتلال تارة وتحت كرباج الاستبداد تارة أخرى.
فبينما يدشن بعض الحالمين صفحات على فيسبوك تنشر حياة الملك فاروق بزهو يتناسوا كوارثه السياسية والأخلاقية له ولأسرته الفاسدة ويخرجون الاحتلال الإنجليزي الهمجي من الحسبان ويستبعدون الكلام عن البوليس السياسي، وتجبر مُلاك الأراضي على الفلاحين، ومعاناة الأقاليم المصرية من فقر ومرض وجهل منقطع النظير، بينما تأتي فتاة رومانسية بصور لطرق وأماكن في الثلاثينيات والأربعينيات فهي تحذف الجزء الأهم من الصورة التاريخية بأن تلك الأماكن والطرق كانت للمحتل لا لنا،
وتلك القصور كانت لبشوات الأتراك والأسرة المالكة وبشوات النظام البائد، تمامًا كما هو الحال الآن فلو أتيتم بصور لكمبوندات لأحياء أثرياء مصر وبعض شواطئهم الخاصة وقصورهم أو ملابس فتياتهم المتماشية تمامًا مع آخر صيحات الموضة في الغرب فهل هذا له أي انعكاس واقعي على ما تحياه مصر وعموم شعبها اليوم؟
وقطعًا أنا لا أنكر مدى الاشتياق لقيم الطبقة الوسطى المصرية في العصر القديم ولكن ذلك ليس له أية علاقة بالتناول السطحي لحقبة الملكية وما بعد الحرب العالمية الثانية على أنها أعظم فترات الشعب المصري المزدهرة!
فلقد كنا مسروقين ومحتلين ومدمرين ومفتقدين لأبسط قواعد الحق في الوطن والأكثر من ذلك أننا كنا نحن الأغراب لا الجاليات الأجنبية الثرية بثرواتنا!
كنا نحن الحفاة العراة وكان الملك وحاشيته والإنجليز ومن عاونهم يحيون في خيرات مصر وتتضخم ثرواتهم على عرق فلاحيها وعمالها الذين صنعوا منهم مجد إمبراطوريتهم المتوحشة.
لا أفكر أبدًا بأن أفلام ليلى مراد هي مصر وقتها، فسينما ذلك العصر كانت تعبر عن أغنيائه وأجانبه ولا تعبر عن المصريين إلا في صورة الخدم والعبيد، فإن كانت تلك الصورة تروق لكم فليكف الجميع عن السخط على العصر الحالي وينعم طغاته العسكريون وأغنياؤه من الإقطاعيين الجدد لأنه سيأتي زمن فيما بعد يعتقد أبناؤه بأن شواطئ مارينا والمدن السياحية الفارهة هي مصر 2015،
وسيعتقد فتياتهم أن سيارة تامر حسني في فيلم ما هي إلا نفسها الذي كان يمتلكها شباب مصر الأنيق في عصرنا! وأن ستايل غادة عادل في فيلم أهواك يمثل مدى التماشي مع موضة الغرب لعموم بنات مصر الآن!
ببساطة وهم الحنين لعصر جميل يجب الافتخار به في تاريخ مصر هو أمر شبه مستحيل، لأنه لا يوجد ذلك العصر طوال الـ 5 آلاف عام من نضج الحضارة المصرية في كل حقبة زمنية كان هناك جمال وقبح، انتصار ما وانكسار آخر، استقلال سنوات واحتلال سنوات.
والسمة الأبرز كانت الطغيان على عموم الشعب، وبالتالي لا توجد قيم رومانسية تصنعون منها عصرًا خياليًا تحنون إليه وإن وجد قديمًا في حقبة ما من تاريخ قدماء المصريين فإنه قطعًا لم يخلق ذلك العصر طوال ألفي عامٍ منذ تأسيس محمد علي لآلة الصهر المسماة الدولة الحديثة كذبًا، وبالتالي فهدفكم في استدعاء صور آخر سلالة أسرته البائدة فاروق أو ما بعده من عصر ناصري يمثل كارثة معرفية لحقيقة اتخاذ عصر الاضمحلال والتغريب والاحتلال هذا كنموذج كلاسيكي للحنين للماضي!
فليس معنى أن دولة يوليو 52 فشلت، أننا ننتمي للدمار الذي كان قبلها، كما أنه ليس معنى أن الأرض أخرجت أثقالها بعد 25 يناير وانتبهنا إلى مستوى الدمار في بنية مصر بأن يعتقد أحد بأن مصر مبارك كانت أفضل من قيام يناير،
لأننا ببساطة سنستمر في المقارنة بين الأسوأ والأسوأ منه ولن نتصالح مع مفهوم استحالة إقامة وطن مثالي لأنه لا يوجد عصر بلا رموز جميلة وانتصارات صغيرة أو كبيرة تحن أجيال قادمة لها كما يوجد في كل حقبة كوارث قبيحة نتمنى عدم رجعتها إلى الأبد، والأهم أنه لا يوجد عصر مثالي تصيبنا النوستالجيا لعودته إلا في أوهام من يحب تصديق الوهم!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست