الجو باردٌ جدًّا هُنا..
مساءٌ غير عاديّ يوم الثلاثين من نوفمبر لعام 2013، قطراتُ المطر تُداعبُ زجاج نظّارتي قرب تمثال “إسحاق نيوتن” الجالِس في أحضان المكتبة البريطانيّة العامة، استندت على السور الحديديّ في انتظار صديقتي (أماندا) حسب ما اتفقنا بالأمس، ستأخذني اليوم إلى أشهر المطاعم الإفريقيّة هُنا، في لندن.
“أينَ أنتِ؟ هي الخامسة الآن!”.
“أغلق الخط أيها العربيّ، أنا بالجهة المُقابلة”.
مطعم (شاكا زولو– Shaka Zulu ) لا يبعد عن هُنا كثيرًا، 5 دقائق بالسيّارة، في موقف (Camden Town) العمومي خرجنا من السيّارة، دقيقتان تفصلنا عن واجهة المطعم.
“هذا بشير خطيبي، سأترككما الآن، استمتعا بوقتكما”.
مألوفةٌ هِي عيون (بشير) وأسنانه الزّاهية، لطالما قابلت وجوهًا مثله بشوارع (القاهرة). لولا أنه أكّد لي عدم زيارته للقاهرة قط لكنت اعتقدت أننا تقابلنا في أحد المقاهي هُناك. اليوم نحن في مكانٍ مُختلف وجديد بالنسبة لي، لكنه لا يختلف كثيرًا عن أجواء القارّة السمراء. أجلسني بشير ورحَل، لم ألحَظ غيابَ بشير فقد أخذتني حيرةٌ شديدة, لم أكن أعلم هل وهج تشوّقي لمقابلة صديق جديد هو الذي يُنير تمثال (شاكا زولو) هذا المُحارب الإفريقيّ ورفاقه القدُامى، أم أنّها حيل الديكورات العصريّة؟ كم هُو مهيبٌ هذا المُحارب، الفيلُ الذي يتحرّكُ أمامِي كان على وشك أن يدهس نمرًا وأن يدهس قلبِي من شدّة الفزع، تلك كانت حيلةً واقعيّة جدًا، الأقنعة الإفريقية على الحائط لم تتوقف عن الهمس في أذني بإيقاع رقصاتٍ قديمة، أُقسمُ أن كبير القبيلة في آخر المطعم أرسلَ صبيًّا ينبهني أنّ المُسن يتضايقُ من دُخّان سيجارتي.
“تفضّل، قهوتك العربيّة”.
على كفَّين لابتسامة إفريقيّة أصيلة قُدمَ لي أدفأَ قهوة شربتها، مذاقها عربيّ في أجواءٍ ليست عربيةً أبدًا.
“ماذا تفعل في لندن بشير؟”.
سؤالي جعلني أُشبه عامل سينما قد أعاد أمام عيني بشير ذاك الفيلم الدراميّ من البداية.
“مازلت أتذكّر (ثمرةَ الموزِ) تلك على الحافة الشرقيّة من القارّة, (3000 كم) تقريبًا كانت من أكثر سواحل القارّة جمالًا, أنا ابنَ “مقديشيو” الحزينة, ما زلت أذكُر الأطفال الذين تغيّرت ملامح أيّامهم وتبدّلت من الزيّ المدرسي إلى الّلعب بفوارغ الطلقات القاتلة، أذكر ابتسامات العصافير التي هجرتنا حين تغلّبت زغاريد الأسلحة على زقزقاتها، أطباق الأسماك الشهيّة التي أصبحت ماضيًا بعيدًا، هُناك على بعد 30 عامًا من الآن كانت صومال غير التي نعرفها…”.
“رُبما لامستُ جرحًا عميقًا بشير، أنا آسفٌ جدًا”.
“لا يا صديقي.. الجُرح أبدًا لم يُشفَ”.
“أخبرني إذًا عن أهل الصومال”.
“آااااه.. حسنًا. سأخبرك عمّا لا تعرفه عن الصومال، وسأتركُ الحديث عن مقاتلي (الشباب) الذين قتلوا الشبابَ في وضحِ النهار، ولن أحكي أبدًا عن أكثر من مليوني مُهاجر نزحوا بعيدًا عن الحرب ذاهبينَ لشواطئ (عدن) بتذكرةِ سفر قد يراها البعضُ متواضعة، لكنّها بالنسبة لهم مبلغٌ ضخم. فعادةً يطلبُ المُهرب ما بين 120-150 دولارًا أمريكيًا، وكثير من النساء لا يحملن مثل تلك المبالغ أبدًا, لكنهن يملكن ثمنًا آُخر – مُجبرات – لدفع فاتورة السفر. رُبما يأتي على بالي الآن هذا المُمرّض (الدكتور حبيب) الذي استطاع أن يُنشئَ أكثر من سبع مصحّاتٍ نفسيّة يستقبلُ فيها كل من قتلت أرواحهم الحربُ، أو هذا العجوز (الكولونيل حسين) المُتقاعِد, الذي لا يرتدي حذاءً مع البدلة العسكريّة، يدعوه البعض بـ(نوح الصومال)، ويدعوه آخرون بالمجنون حينَ يذهب ليجمعَ ما تبقى من الصيّادين، مُحاولًا تجميع أطلال أقوى الأساطيل الإفريقية حتّى يُعيد بناء سلاح البحريّة من جديد، ويحكي لهم عن (فندق أورُوبَا- Oropa) المهجور وذكرياته مع الحسناوات في زمن الرقص الكلاسيكيّ…
أو رُبّما سأحكي لكَ أيضًا عن رجالٍ كرّسوا حياتهم لمُحاربة القراصِنة في الشمال الشرقيّ تحديدًا (محافظة بوتلاند)، القراصنة الذين ربّما اضُطّر بعضهم للعمل هذا بعدَ أن لوّثت شركات الصيد بحارهم مُستغلّين غياب الدولة دون منح أدنى فُرصة للصيّادين البسطاء، فما كان عليهم سوى الهجرة أو القرصنة وكلاهما مُرٌّ…
أمّا عن (صومالي لاند) أو ما يُسميه البعض رأسُ الموزةِ السعيد، فهم مُتهمون من الصوماليين المُحتجزين بين أسوار الحرب اللعينة بأنّهم قد باعوا البلاد، بدُولارٍ واحد تستطيع شراءَ كيلو جرام من العُملة الصومالية هُناك، لا ضرورة لحمل السلاح وأنت تتنزّه في السوق على خلاف مقديشيو, تستطيع بكل بساطة زيارة كُل المؤسسات الشعبيّة التي ستتحول – كما يحلم أهل صومالي لاند – يومًا مؤسّسات حكومية، هُناك هيئة سياحة أسّستها شابّةٌ هي الوحيدة التي درست الآثار (الأركيولوجيا) والتي تقوم بدورها الآن في رسم خرائِطَ دقيقة حول الأماكن التي من المُمكن أن تكون سياحيّةً يومًا، نعم هذا هو الجزء المُشعُّ أملًا في الصومال…
بالرغم من سقُوط (مقديشيو) وسط بركة الدماءِ تلك على مدار ما يقرب من عشرين عامًا، ما زالت هُناك بؤرة ضوء”.
“ماذا كُنتَ تعمل في الصومال بشير؟”.
مُقتربًا من نافذة الطابق العلوي أخرج زفيرًا من الدخان الذي لم يكُن دخان تبغٍ أبدًا..
“أنا كنت واحدًا ضمن مائةً من عاملي وفنيي (إذاعة مقديشيو) المحليّة، كان مبنى بسيطًا لكن في أحشائِه أثمن وأغلى الكنوز الصومالية، أشرطة أغاني يرجع تسجيلها للعام 1940، تراثٌ أدبيّ، وشعر، ومسرحيّات، هذا ما تبقى لنا، هذا إرث الصُوماليين. مُهمتُنا كانت الاستمرار في الإذاعة، والحفاظ على هذا الإرث، (الشباب) أدرجوا أسماءنا على قائمة المُرتدّين، فقط لأنّا نبثُّ الأغاني من خلال إذاعتنا، كُنا بمثابة ثكنة عسكريّة ذاتيّة، نوبات حراسة مُسلّحة، لا خروج، لا دخول، إلى أن أهدانا الاتحاد الإفريقيّ ما يقرب من 5000 جُندي لحماية مقديشيو كلها ومحاولة إعادة النظام والأمن، والنتيجةُ معروفة”.
“أتمنى لكَ العودة مرّة أُخرى يا بشير”.
استغربتُ كثيرًا حين لم يُجِب (بَشير) على حديثِي، تائِهٌ بصره في شيءٍ يراقِبهُ بالأسفل ثمّ أسرعَ بعد أن التقطَ الجاكيت وألقى إليّ جُملته التي كانت غير عاديّة.
“أماندا تركض، قد حدث شيءٌ ما بكل تأكيد”.
جمعت أغراضي وتبعته، كانت أماندا تبكي.
“لقد نفّذMr. Paul مالك مسكنك ما توعّد به. لم يكن تهديدًا فارغًا يا بشير كما قُلتُ لك، الآن شقّتك كالكوخِ الخرِب، لابد وأن تهرُب”.
احتضنها بشير كثيرًا حتى كادت عظامهما تُصدرُ شررًا، ثم قبّل جبهتها بعد أن جفّف دموعها بكل رقّة.
“لا تقلقي عزيزتي”.
“ما القصّة بشير؟” سألت.
“أبدًا، كل ما في الأمر أن (الشباب) لن يتوقفوا عن إرسال لعناتهم إلينا بالداخل وبالخارج. تصادف أن صاحب المسكن فقدَ قريبًا له في حادث تفجير وسط سوقWest Gate بالعاصمة الكينيّة (نيروبي). قُتل أكثر من 40 شخصًا كان فقيدهُ من بينهم، منذ الحادث وهو يتوعدّني بكل غيظ”.
“وماذا أنت فاعل، هل صرتَ مُتّهمًا؟!”.
“نعم ؛ أنا مُتّهم والتُهمة أني (صوماليّ)، الأمرالذي جعل خطيبتي (الإنجليزية) التي أحبتني، هي أيضًا مُذنبة. أنا أعرفُ جيًّدا ماذا سأفعل.. لا تقلقوا”.
“لا وقتَ لأفعالٍ جنونيّة صديقي”.
“لو كُنت أُجيد تلك الأفعال لما كُنت هنا بعيدًا عن بركان الجنون في الصومال، أنا سأذهب إلى قسم الشرطة”.
“ماذَا؟!” أنا وأماندا صرخنا.
“نعم سأذهب إليهم، لا مكان لديّ لأختبئَ به، ولم أكن سببًا في ألم أحدٍ قط، فلماذا عليّ أن أهرُب؟ لن أعيش طريدة الجنون مرّة أخرى. وداعًا صديقيَ العربيّ”.
مُبتسمًا ترك الدموع فوق وجنتيَّ ورحل بعد أن أخبرني أن أماندا قد حكت له عنّي وأخبرته أنّي كاتب.
“إن كتبتَ عنّي يومًا ما فلا تنسَ أن تُخبر قُرّاءك أن ثمّةَ (صوماليًّا) قدّم لي يومًا قهوةً عربيّـة…”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست