بدأ الناس بالخروج من المسجد وكنتُ أنا من بينهم، راعني أمرهُ وربما سِنّهُ المتقدمة وأنا أقومُ بإدخال قَدَمي اليُمنى في الحذاء مستعدّا للانصراف، كانت أدعيته مسترسلة يحفظها عن ظهر قلب لكثرة تَرديدها على أبواب المساجد والزوايا، كنت لا أملكُ في جيبي درهمًا ولا دينارًا وصراحة لم تتعوَّد يدي أن تجودَ ببعض الدُريْهمات في هكذا مكان، أهو تفريطٌ وتقصيرٌ منّي؟ انعدامٌ للثقة؟ إيماني بأن المكانَ لا يصلحُ لهذا التصرُّف؟ أرجِّح الاحتمال الأوّل مع الأسف، سامَحنا الله. ما زال صاحبُنا يتوسّلُ ويتوسّعُ في أدعيته بل ويتفنّنُ في إلقائها دون أن يجدَ من عَشرات المُصلّين المُتجمهِرين في ساحة المسجد من يَحنُّ لِشيبته ويرقُّ لحاله، أغضبهُ الأمرُ كثيرا، وهو يتمعّنُ في راحةِ يدهِ وقد حَصدتْ ما لا يكفي حتى لاقتناءِ نصف لتر من حليب يسدُّ به رمقه، بدأت ساحة المسجد تخلو من المصلين شيئا فشيئا ولم يبق في الداخل سوى بعضٌ ممن يقضون ما فاتهُم من ركعات، ثم يَنصرفون بمُجرّد انتهائهم من التسليمة الثانية في عَجَلة، وكأنهم تأخروا عن موعدٍ أهم ينتظرُهم، دون أن يلتفتَ أحدٌ منهم لصاحبنا الذي مازال متشبثا بطلب العَوْنِ يُحرّك يدهُ الممدودة حتى تكادُ تلمس من يمرّ أمامَه، أخذَ يَعدُّ نقودَهُ ويُعاود الكرّة مرات عدة، وكأنه مصدومٌ بما جدَّ به أمر هذا اليوم البئيس، أضاف لنقوده نقودا أخرى كانت مدفونةً في جيبه، وأخرج نصيبا آخر من قِبّ جلبابه، وشيئا من تحت إبطهِ الأيسر ثم جمع حِصّتهُ وبدأ في عَدّها بِرُويّة درهما درهما، وكأن منظرها شغله عن صدمته.
كان وجهُه شاحبا تكاد تُغطيه تجاعيد السنين، وظهره مقوسا من شدة جلوسه على هذا الوضع، تبدو عليه كل آثار البؤس وتاريخا عسيرا يُخبئه بين أضْلُعه، لم يجد أفضل من أن يمدَّ يدهُ يطلبُ عطفَ المارّين على شوارع الحياة، بعد أن خانَه الزمن ورفسَتهُ قساوة الأوضاع، لم يعد يهمُّه شيء، ترك الحياة بعد أن تخلَّت عنه تماما وأدارتْ ظهرَها له منذُ عُقود، صارعَها وصارعتهُ وهزمته أشواطا دون أن يتمكّنَ من الانتصار عليها ولو لمرة واحدة، أعلن الاستسلام أخيرا وانزوى إلى منحى عيشٍ مغايرٍ لا يَعرفه أصحابُ الحياة الحقيقية، فالحياةُ أنواعٌ وأشكالّ وليست بثوبٍ واحدةٍ ولا هيئةٍ واحدة، نعم تجمَعُنا أرضٌ واحدةٌ وسماءٌ زرقاءٌ واسعة، لكن بينهما تُساق حَيواتٌ نحوَ الموتِ وأخرى نَحو المجهول، وأخرى إلى مزيد من نعيمٍ مُقيم، ونحنُ في ذلكَ لا نَملك حولاً ولا قُوّة إلا أن نَنصاعَ لها ونَخضعَ لإملاءاتها.
منع الإسلامُ التسوّل، إلا لفقرٍ شديدٍ يوشكُ أن يُؤدي بصاحبهِ إلى الهلاك، ولاحتواءِ هذه الظاهرة الكونية فقد أنشأَ نظامًا اقتصاديًا متكاملًا من النادر أن يُوجد في ظلّه متسوّلٌ واحدٌ لو طُبّق تطبيقًا صحيحا، ولأجل ذلك شُرعت الزكاة، وهي كما هو معلومٌ مقدارُ رُبعِ العُشُر من مالِ الشخص يُخرجُه عند تمامِ الحَوْل، السؤال الذي يفرضُ نفسه هل نؤدي فريضة الزكاة؟ أم أن الأمر في غاية الحساسية بالنسبة لنا خصوصًا في عصرنا هذا الذي طغَتْ عليه الضغوطات الاقتصادية والمالية من كل ناحية، وأصبح مُجرّد التفكير في إخراج مقدار الزكاة أمرًا مُرهقا وعصيّا لا نحبّذُ الخَوْضَ فيه، فتجدُ الذي يكنزُ أموالا طائلة في البنوك الداخلية والخارجية عندما يَسألهُ أحدٌ عن حقّ الفقراء في ما يملكُ من ثرواتٍ وأموالٍ وعقاراتٍ ومجوهرات وهو حق الله قبل كل شيء، تَجدهُ منزعجًا وكأنّ مُجرّد السؤال فقطْ يُهدّد ثروتَهُ بالزّوال، وهناك من لا يعلمُ عن القصة شيئا ولم يسمعْ بها في حياته كلّها، فيتذرّعُ بكونه يُنفق كل صباحٍ ومساء على الفقراء والمساكين وهذا كفيلٌ بأن يُؤدي ما بذمّته من مال الله عليه، وفي الحقيقية عندما ترى إحسانَه وكرمَه تجده لا يُنفقُ سوى سنتيماتٍ معدودةٍ لا تكفي حتى لشراء رغيفِ خُبزٍ حاف، ولا تنقصُ أموالُه بغدقه هذا على المحتاجين كما يزعمُ إلا كما ينقصُ البحرُ من مائهِ عند غمسِ إبرةٍ فيه.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست