تسأل المذيعة السؤال المُستهلَك – الذي لايكف إعلامي عن طرحه – السيدة التي تجلس في المقعد المقابل لها وتقول: “ماذا يمثل لكِ الفن؟”
تجيب عليها السيدة – والتي يطلق عليها الفنانة نظرًا لأنها تجمع بين عدة مواهب وهي الرقص، والتمثيل، والغناء ومن الممكن أن تصبح مذيعة في المستقبل – وتقول: “الفن بالنسبة إليّ رسالة”.
أنتفض أنا من على مقعدي في غضب وأتجه نحو شاشة التلفاز وأقول: “أتدركين ما معنى الرسالة أيتها الحمقاء!”، ثم تهدأ ثورة الغضب بداخلي وأعود إلى مقعدي أتأمل ذلك السؤال وتلك الإجابة وكيف يُخوّل لتلك السيدة أن تتحدث بكل هذه الثقة على أنها الرسول الذي يحمل الفن من جيل إلى جيل، لابد من أنني أنا الحمقاء التي لا تفقه ما تفعله تلك السيدة للمجتمع من جهد جهيد؛ فالجميع يطلقون عليها لقب الفنانة: الصحافيون، الإعلاميون حتى السياسيون ورجال الإعمال، كلهم مدركون لقيمتها إلا أنا!
ينتابُني اليأس لأنني لا أستطيع فهم رسالتها ولا على ما تنطوي عليه من معانٍ عميقة وأقرر الانتحار، ولكن قبل أن أنتحر وأُعذّب في جهنم لا بد من أن أستمتع في الدنيا قليلًا لذا قررت أن أشاهد الأفلام الأجنبية باعتبارها أقصى المتع بالنسبة إلي.
Boyhood:
فيلم هادئ لطيف وبالرغم من أنه يتحدث عن مرحلة الطفولة والمراهقة لأشخاص في الولايات المتحدة إلا أنك تشعر بأنه يمثل طفولتك ومراهقتك أنت أيضًا وأنت الذي تحيا في مكان آخر في هذا العالم وتتعجب من هذا التشابه الغريب بين البشر ومشاعرهم وأفكارهم بالرغم مما يبدو عليهم من اختلاف، ولكن العجيب حقًّا في هذا الفيلم بأن القصة تبدأ بطفل صغير وهو البطل وينتهي بشاب يبلغ ثمانية عشرعامًا وهو أيضا البطل، إن الأمر يبدو طبيعيًّا فالكثير من الأفلام استعانت بأكثر من ممثل في مراحل عمرية مختلفة ليمثل حياة شخص من الطفولة حتى الشيخوخة، ولكن الطفل في هذا الفيلم يكبر وينمو ولكن ملامحه لا تتغير وكذلك أخته وباقي الممثلين مما يدل على أنهم نفس الأفراد ولايستعينون بممثلين آخرين، دفعني الفضول لمعرفة كيف تم هذا، وكانت المفاجأة .. لقد استغرق تصوير هذا الفيلم اثنتي عشر عامًا وكل هذه المدة ليست بسبب عطل فني وإجراءات خاصة بإنتاجه وإنما برغبة بأن يحاكي هذا الفيلم الواقع بطريقة أقرب إلى الكمال فأنت ترى أمامك طفلًا ينمو ويتغير في شكله وأفكاره ومشاعره والعالم من حوله والظروف والأشخاص هم كذلك يتغيرون.
وكل هذا ليس تمثيلًا وإنما حقيقة حدثت للبطل كما تحدث لك أيضًا، اختزال لأحداث تمت خلال اثنتي عشر عامًا في ساعتان و46 دقيقة، هنا أيقنت ما معنى الرسالة، هذه هي الرسالة الحق أيتها الحمقاء التي تدعين بأنك تحملينها، الرسالة في أن يتحلى بالصبر فريق عمل بالكامل مدة اثنتي عشر عامًا من أجل إيصال فكرة وليس مجرد ربح المال أو تحقيق شهرة من فراغ كالتي تتحلين بها أيتها الحمقاء.
Whiplash:
البعض سيرى أنه كلما طالت مدة الاجتهاد فإن النتيجة ستكون أفضل، ولكن لا هذه ليست القاعدة دائما فما يحكم نجاحك ليس طول المدة أو قصرها ولكن بالجهد المبذول ومدى إتقانك وتفانيك لعملك في هذه المدة؛ ففيلم Whiplash هو فيلم لم يستغرق تصويره سوى 19 يومًا، ولكن بالرغم من هذا فقد شهد استحسانًا بالغًا من النقاد والمشاهدين، أتعرفون ما السبب؟ لأن الناس شعرت بما شعر به البطل وتفاعلت وانفعلت كما انفعل هو لأن انفعاله لم يكن مجرد تمثيل بل كان واقعيا ..
فقصة الفيلم تدور حول شاب قارع طبول ويريد أن يحترف العزف حتى يصبح عظيما وتُخلّد ذكراه، تبدو القصة عادية وغير مُحمِسة على الإطلاق، ولكن حينما تشاهد القصة وترى كيف دفعه معلمه – وهو رجل قاسي الطباع لايعترف بما هو أقل من المثالية – إلى حد الهوس بالطبول، الأمر الذي جعل البطل الشاب لا يأبه ولا يهتم سوى بقرع الطبول حتى يثبت لمعلمه ولنفسه بأنه قادر على أن يصبح عظيمًا؛ فانفصل عن حبيبته لأنه رأى في حبه عرقلة لطريقه إلى العظمة، لم يكن اجتماعيًّا وليس لديه أصدقاء، يقضي الساعات في قرع الطبول حتى كانت يديه تسيل منهما الدماء لأنه لايريد أن يتوقف، وهنا مايلز تيلر لا يمثل فقد كان في الحقيقة يعزف على الطبول ولايقول له المخرج “cut” حتى ينهكه التعب، كما كانت يداه تدمي أيضًا في الحقيقة من فرط الإرهاق البدني، ولهذا شعر المشاهد بأن ما يراه حقيقة وليس مجرد تمثيل، هل تدركين الآن معنى الرسالة يا حمقاء؟
Interstellar:
رسالة أخرى من interstellar ولن أتحدث هنا عن قصة الفيلم التي تحدث عنها الكثيرون ولا عن عبقرية المخرج التي أشاد بها الجميع ولكن سأتحدث عن كيف تجلى به الوجد إلى تلك العبقرية، كريستوفر نولان قام بدراسة نظرية النسبية والثقوب السوداء في معهد كاليفورنيا عدة سنوات قبل كتابة الفيلم وذلك حتى يكون على علم كافٍ بالفكرة التي سيطرحها على عقول المشاهدين، البعض قد يرى أن ما فعله مضيعة للوقت وخاصة أنه فيلم خيالي أي أن المخرج يقدم فيه ما يشاء من معلومات ولا أحد سوف يحاسبه وأنه سوف يبرر أي نقد يقدم إليه بأن الفيلم خيالي ولا يمت للواقع بصلة، ولكن ما فعله نولان هو مايطلق عليه الاحترام؛ احترام لتلك العقول التي تنتظر رسالته، وبالتالي بادله الجمهور الاحترام والشغف في تفسير هذه الرسالة؛ فترى كل من شاهد الفيلم يبحث عن تفسير لما رآه، يقرأ عن الثقوب السوداء، يحاول فهم نظرية أينشتاين وأبعادها، يسأل غيره عن ما فهمه من الفيلم ليرى هل أدرك ما أدركه أم لا؟
لقد جعل نولان من جمهوره جمهورًا واعيًا ومثقفًا يبحث عن المعلومة يتخيل، يحلل، ويفترض، لذا لم تكن سنوات دراسته للفيزياء مضيعة للوقت أبدًا، بل هي التي أضاءت عقول الملايين وجعلت أعينهم تتسع من النشوة، ولربما كان هذا الفيلم وحيًا لشخص ما في هذا العالم بأن يدرس الفيزياء ويتوغل في بحور هذا العلم ولربما أيضًا أصبح عالمًا، لا أحد يعلم ولكن ما نعلمه أن هذا ما يستحق أن نطلق عليه رسالة وليس ما تفعلينه أنتِ أيتها الحمقاء.
في النهاية يجب أن نعلم أن تلك الحمقاء التي أتحدث عنها لم تُصّنع من تلقاء نفسها، فنحن من صنعناها وقدمنا لها الاهتمام وأضعنا عليها الوقت وأكثرنا في حقها المديح الكاذب حتى توهمت بأنها حقًّا بتلك الأهمية التي تظهر لنا بها وأن ماتقدمه من فن مبتذل هو حقًّا رسالة يجب أن تستمر إلى ما لا نهاية؛ لهذا نحن – ونحن فقط – القادرون على هدم أسطورة أن تلك الحمقاء الكبيرة هي حقًّا فنانة؛ وذلك بأن نوجه أنظارنا نحو ما هو أنفع منها ونتأثر بما هو أصدق منها ونثني على من يستحق الثناء ونعلي شأن من يبذل في العطاء، فعودوا إلى رشدكم أثابكم الله!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست