في الوقت الذي يفكر الغرب في صناعة انتماءات جديدة مع شعوب العالم كـ(انتماء الخبز والإنسانية والحرية) لتمد إمبراطوريتها الفكرية إلى بقاع العالم، يفلح الحكام العرب في صناعة قطيعة جديدة وسط سبات شعبي عربي متعب من دوامة الصراع بلا نتيجة مخلفة وراءها تحولات وانقسامات داخلية عنيفة.

 

قراءة في أوراق الهجرة:

 

أولا- الدول العربية تكتفي بهذا القدر: 

تتعامل بعض الدول العربية مع اللاجئين تعاملا ازدواجيًّا؛ فهي من دعم الثورة السورية والعراقية خدمة لمصالحهم في إيقاف المد الإمبراطوري الفارسي الجديد ولكنها في ذات الوقت تنقم على الثورات التي هي مصدر اشتعال النار التي يمكنها أن تهدد استقرارهم، وهذا ما يجعلها تغلق الأبواب أمام المهاجرين أو الاكتفاء بالقدر الحالي منهم كما هو الحال لدى بعض الدول العربية.

 

ثانيا- هجرات كبيرة تعبر قوانين un نحو السواحل الرومية: 

فوق زوارق الموت التي تقل المهاجرين تتقارن في الذاكرة التاريخية مع تلك السفن التي كانت تنقل أبناء أفريقيا عبيدًا إلى البلدان الغربية، إلا أن تلك السفن آنذاك كانت أكثر متانة من زوارق المهربين المهلكة.

لم يختلف الواقع كثيرًا؛ فكلتا الصورتين متشابهتان في عدة أمور.

منها:

– إفراغ الأرض من أهلها ومن تاريخها لأجل تاريخ آخر.

– تمييع المجتمع المهاجر في هوية جديدة.

– بناء الحضارة الجديدة في أوروبا أو أمريكا على سواعد عبيد جدد ولكنها عبودية عقلية جديدة عوضًا عن العبودية القديمة.

 

ثالثا- الحرب التي بلا دموعٍ غربية:

قال تعالى في محكم كتابه (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناسَ يدخلون في دين الله أفواجًا…) فالفتح للبلدان سبيل لدخول الناس في دين الفاتح أفواجًا.

 

وما يحدث اليوم في سوريا والعراق هو الحفاظ على ديمومة الصراع دون تغليب أي طرف على طرف، والمتابع لسياسة الدول الكبيرة وكيفية تعاملها مع الوضع الراهن في المنطقة العربية يرى ذلك جليا.

 

وهذا ما يجعلنا نأخذ المقولة المشهورة بعين الاعتبار (سنخوض معاركنا القادمة بلا دموع)، فإن لم تكن هذه هي معاركهم التي بلا دموع فماذا عساها أن تكون.

 

وفي هذه المسار التاريخي الشائك سيكون الغالب والفاتح هنا في ذهنية المجتمعات ككل هي الدول الآمنة القوية، لتصبح قبلة المهاجرين جسديًا وفكريًا.

 

رابعًا: بعد أمد من زمن الصراع 

أضف إلى ذلك بعد أن تتحول كل الدول المتناحرة بعد طول صراع إلى دول ضعيفة ومريضة سعيًا وراء النتيجة:

 

١- سهولة اقتحام الدول الضعيفة والمنهكة وذلك بتغليب طرف على آخر، وهو الطرف الأكثر ولاءً لهم بلا شك بدعم جيوش رومية تنوي البقاء أو استرجاع الأرض التي أخذها منهم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

٢- إفراغ الأرض من أكبر نسمة سكانية ممكنة.

 

٣- تسهيل الهجرة للعنصر الرومي إلى البلاد العربية الغنية ذات الخطر التاريخي كما حدث في أمريكا وكندا وأستراليا.

 

٤- سحب المجتمع العربي من أرض الشام والعراق وهلمّ جرا إلى أوروبا والغرب بالملايين وذوبانهم في مجتمعات أكبر وسط حياة ملؤها الرخاء، تستقبل نفوسًا فرَّت من الحروب طموحها العيش الرغيد والاستقرار.

 

ولأن الدول العربية تكتفي بما لديها من المهاجرين أو أنها لا تستطيع استقبال المهاجرين وهم  بالملايين، مما يجعل المهاجرين الباحثين عن الاستقرار عندما لا يجدونه في البلدان العربية المرفهة يفرون إلى البلدان الغربية المرفهة.

 

لكن الدول الغربية لا تفتح هذا الباب سهلا على مصراعيه لسبب واحد:

– أن الهارب على كف الموت بعد أن غلقت في وجهه أبواب الإخوان المرفهة، سيكون أكثر ولاء للبلد الذي يمنحه الكثير من الحقوق، وهو أكبر شيء يمكن أن يخطر في ذهن فرد كاد أن يموت غرقا ولو كان هذا البلد عدوًا تاريخيًّا.

 

خامسًا- القبلة البديلة: 

بينما تبقى الدول القوية هي المثل الأعلى للعيش الكريم لكل المهاجرين مهما كانت ديانتهم، ليكون الدين هو دين اللا دين ودين الملذات إلا ما يمارسه الإنسان من صلاة وصيام وحج وما شابه إلى مدى من الزمن، حتى يزاح البيت الحرام من الخارطة كحلم مستقبلي لدى البيوت البديلة التي تتنافس على إدارة العالم، يأتي بعد حلم زوال المقدس، وهذا ما سيكون هينًا في نفوس المهاجرين جسديا وفكريا إلى أرض الأحلام، القائلين (استقبلنا البيت الأبيض وأغلق في وجوهنا أبواب البيت الحرام) كصورة يرسمها الواقع،

 

ولكن التعامل مع هذه الصورة بسطحية أمر مهلك وفي غاية الجهل، وهي في خلاف تام مع الطريقة التي تعامل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة حين أغلقت في وجهه أبواب مكة والطائف وغيرها.

 

سادسًا- الموقف السياسي لأوروبا المستقبلة للاجئين من قضايا العرب: 

الغرب الذي قضى على القذافي وصدام حسين لم يقضِ على بشار الأسد ولا على الأطراف المناوئة له، بل يقوم بدعم الطرفين بشكل متساوٍ مما يجعل الصراع مستمرًّا.

 

فأوروبا والغرب رغم كل المجازر التي حدثت وتحدث وستحدث في سوريا والعراق، يتقدمون خطوة ويتراجعون خطوتين، وهذا دليل عملي يبين اتفاق الغرب على أهمية دوام الصراع في المنطقة العربية، فالسياسة لا تقاس بالأقوال ولكن بالأفعال.

 

ليس علينا أن ننسى، بل يجب علينا أن نتذكر موقف الشعب النمساوي والألماني مع اللاجئين العرب عندما استقبلوهم ذلك الاستقبال الحافل بالسخاء والكرم الكبير، كما نقل ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، ولا بد ليوم من الأيام أن نرد ذلك الجميل.

 

كما لا يجب أن ننسى من دمر بلادنا في حملات صليبية كما أسماها بوش الابن، كانت هي دول أوروبا مجتمعة وسط صمت من شعوبها النبيلة.

 

سابعًا- المهاجرون أمام فتنة في الدين:

لو فصلنا مناظر الموت المحزنة والمناظر المذلة للمهاجرين عن حقيقة المشهد لوجدنا أن المهاجرين قد ساهموا في هذه النهاية المحزنة والمخيبة لنفوس العرب والمسلمين.

 

فهم اليوم في معادلة غير دقيقة إلا أن عقل المهاجر الناقم يلوم الآخرين بطريقة قاسية تلائم ما جلب لنفسه من مأزق،

 

فهو أصبح يقول (لقد أغلق المسلمون أبوابهم في وجهنا بينما فتحها الكفار) وهذه الكلمة قد تعني بشكل غير صريح في داخل النفوس التي بقي فيها القليل من خشية الله (أن الكفار أفضل من المسلمين) مما يساوي (أن الكفر أفضل من الإسلام)، وهذه النتيجة سيصل إليها المهاجر فكريًّا أو جسديًّا يومًا ما إن لم يصل إليها أغلبهم، أو كما خرجت صريحة من أتباع الفكر الغربي والمعجبين بحياتهم كما نراه واضحًا ومتداولا في شبكات التواصل الاجتماعي.

 

في حقيقة الأمر لم يكن هناك ما يجبر المهاجرين لركوب البحر وهم بالعشرات، تغص بهم زوارق لا يركبها إلا من جن جنونه بحلم يلوح في مخيلته.

 

وهناك عدة نقاط مهمة يجب الانتباه لها: 

المهاجرون إلى ألمانيا لم يفروا من الموت بشكل مباشر، بل فروا إلى الحياة الرغيدة عبر زوارق الموت علَّهم يصلون إلى الحلم الأوروبي الجميل.

 

فألمانيا أو أوروبا عموما ليست على حدود سوريا وما تعانيه من حروب، بل هي على حدود تركيا، وتركيا التي استقبلت اللاجئين بالملايين من الشعب السوري والعراقي وسط تعاطف كبير للدولة والشعب التركي فاتحةً لهم باب العون والعمل، منتهكين لكل القوانين التي قد تقيدهم، ولم تغلق تركيا أبوابها حتى الآن، ولقد أعلن الرئيس أردوغان قائلاً (لن تغلق أبواب تركيا في وجه اللاجئين العراقيين والسوريين).

 

مما يعني أن البديل التاريخي الأقرب والأكثر وضوحًا للحبشة في هذه المرحلة ليست ألمانيا بل تركيا.

 

ثامنًا- النجاشي والهجرة:

يتذرع البعض بالهجرة إلى ألمانيا بهجرة الصحابة إلى الحبشة. وهناك نقاط وفوارق مهمة يجب الانتباه لها:

 

١- النجاشي النصراني موجود قبل وأثناء الرسالة ولم تكن هناك أي مشكلة آنذاك بين النصارى والمسلمين كما حدث فيما بعد بين الروم والمسلمين في بلاد الشام ومصر وباقي الفتوحات.

 

٢- الهجرة إلى بلد النجاشي كانت دعوة ولجوءًا وفرارًا بالدين، وهي كالهجرة إلى أي مدينة كانت بحثًا عن ناصر للدين الرباني.

 

٣- النبي صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلى الحبشة، بل هاجر عدد من الصحابة الضعفاء خوفًا على دينهم بعد أن أذن لهم.

 

٤- أثناء الهجرة إلى بلد النصارى في زمن الصحابة لم يكن هناك خيار أفضل؛ أي لم يكن هناك بلد للمسلمين بل كان المسيحيون أقرب إلى الإسلام  من المشركين.

 

٥- لا يمنع أن يكون هناك ملك عادل في بلاد النصارى.

 

٦- الهجرة إلى الحبشة كانت لحفظ الدين وليس للعيش في النعيم ورغد الحياة.

 

٧- انتهت الهجرة بعد وجود دولة حاضنة للإسلام؛ فالحبشة لم تكن المكان المثالي لنصرة الدين كما كانت المدينة المنورة.

 

تاسعًا: خطورة هذا المشهد:

لا تكمن خطورة هذا المشهد الخادع على الفرد المهاجر، بل على الأمة الإسلامية والشعوب العربية أيضًا التي تتأثر بالحدث تأثرا شديدًا؛ فالشعوب لا تستطيع التفريق بين الموقف الكلي والموقف الجزئي بل تتأثر بسحر المشهد.

 

ذلك المشهد المتمثل في الرحمة الغربية الهوليودية التي تتعامل بشكل جزئي مع الواقع، بينما يقع الظلم الغربي على أممنا بشكل كلي ولا حاجة أبدا لسرد التاريخ المرير الذي صنعته الحملات الصليبية على ديارنا.

 

ولكي يكون حدث الرحمة الغربية أكثر سحرًا، يرسلون إلى شعوبنا المنكوبة في المخيمات النجمةَ الأمريكية الشاذة أنجلينا جولي ليقول السذج من الناس (انظروا إنها أشرف من حكام العرب) أو (أشرف من العرب)، وهذه المقارنة في الصورة الذهنية تعني أمرًا خطيرًا لأن التداعي الفكري للعربي الناقم على الواقع المؤلم سيؤدي به إلى مقارنات أكبر وأكثر خطورة.

المشهد الحالي للمهاجرين الغرقى والمعذبين والمحتجزين في سجون المجر والمحترمين في ألمانيا والنمسا يضع الحكام العرب في موضع مخزٍ، ويضع المجتمع العربي ككل في حالة الصدمة والإذلال؛ فهو يتفاعل مع الحدث وكأنه المهاجر ذاته متأثرًا بموقف الرحمة الغربية لتزيد نسبة المهاجرين فكريا إلى الفكر الغربي، وهذا احتلال مبدئي وتمهيدي لبلادنا العربية والإسلامية يعقبه احتلال أكبر ولكن أقل كلفة وأقل دموعًا.

 

الشباب الناشطون في حملة يقولون : #افتحوا_الأبواب ليس من شأنها أن ترفع الإثم كله على حراس الأبواب رغم أنها تحملهم المسؤولية التاريخية في عدم تحولهم إلى أن يكونوا أنصارًا.

 

لكن وإن أغلقت أبواب الطائف وتأخر الأنصار ومات المسلمون في الحرب والحصار، فالمنايا ليست الحبشة والعيش فيها ليس تتمةً لفيلم (الرسالة)، فطريق جنة الدنيا ليس ذاته طريق جنة الآخرة، والتضحية في سبيل الله ليست هي التضحية في سبيل الذات والملذات والعيش الرغيد.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد