أصبح إلزامًا الخوض في تفاصيل التنظيم في سبيل الوصول للصورة الكاملة لحال عالمنا اليوم، لنعيد طرح السؤال ولو لمرة أخيرة: من تكون عصابة الدولة الإسلامية في العراق والشام؟ بلغة الخبراء: من يقتني قناع أبو بكر البغدادي؟ بلغة “العلماء”: من يريد إلباس الإسلام عمامة راديكالية؟ بلغة العامة: من رتب لصناعة مجموعة إرهابية في منتهى الشراسة وفي أيام معدودات؟ بلغة الساسة: من تبرع على الدولة بهذه الشرعية والتعاطف والالتحاقات المكثفة؟ بلغة المحاسبة: من الرابح من قصة العلم الأسود الصادم بعبارة “الله رسول محمد”؟ وبلغة المؤرخين: من عودنا على صنع خصوم في منتها الراديكالية العنيفة؟
ما أن نطرح سؤالا حتى نسلسله بآخر، تعدد التساؤلات وكثرة الاتهامات موجهة لدول بعينها، لنقل تحالفات نظرًا لحجم “الهندقة”، القصة تخلت عن تعقيدها وبدأت تكشف القليل من الأسرار، امتداد “داعش” في الزمن ألزمها حتمية الاستهلاك، وبدأ المجرم في ترك بصماته على مسرح الفعل، بصمات ملطخة بالدماء كما عهدناها شاخت بتجاعيد الإمبريالية، تتفنن في السيطرة على الأرض وما في باطنها بصناعة أعداء على طريقة زعيم النازية: “إذا أردت السيطرة على الناس، أخبرهم أنهم معرضون للخطر، ثم حذرهم أن أمنهم مهدد، ثم خوّن أعداءك وشكك في وطنيتهم وإنسانيتهم”.
ما أشبه الماضي بالحاضر، بالأمس وعدونا بنحر بن لادن القاعدة، واليوم بدحر بغدادي الدولة. بالأمس كانوا هناك لتجفيف دجلة والفرات، ربما اليوم لطمرهما. البارحة استهدفوا صدام البعثي والدور على بشار الأسد، وكأننا نعايش مكر لاوي وبنيامين ويهوذا بيوسف، بل نعايش مكر هولاند وباراك ورجب بكبرياء البشرية. الأمس لا يشبه اليوم بل هو توأمه. هل من تجمع ماكر يكيد بالحق ويمجد الباطل غير مجلس الأمن؟ من يحدثنا عن معسكر يفتك بالإنسانية ويقدس الظلم غير “النيتو”؟
المقاتلات وحاملاتها راسية في المحيط، مدارج الإقلاع وقواعد الرادارات مشيدة في المنطقة، النقطة قاتمة بسواد الدهب، وحالكة بظلام “داعش”، والمتهم هو نفسه من أسقط طائرة “السوخوي” الروسية من أجل حماية تجارته النفطية مع تنظيم الدولة، أردوغان صديق الإسلام وفلسطين، وحليف الغرب والصهاينة، الجار الشقيق لسوريا والعراق، والعدو السينمائي لبنيامين نتنياهو، دوره في اللعبة راجع لتموقعه في الرقعة، هو مصدر براميل السم الأسود القادمة من المستنقع المظلم، ومنفذها الآمن نحو أمواج الأبيض المتوسط.
بلا رحمة ولا مراعاة لمشاعر وحرية الإنسانية، قتل وتنكيل وإبادة واضطهاد بدم بارد، كأنهم ليسوا جيراننا فوق هذا العالم المتخم بالحزن والأسى، فإما أن نشهد نهاية الحروب، أو أن تشهد الحروب نهايتنا. أخبروهم أننا سئمنا الاستيقاظ على أنغام أصوات الرصاص ولوحات التقتيل الدموية، لابد أن تستفيق فينا الإنسانية يوما، ونعيد التمعن في ما نقدمه من أشكال تعاطف صورية وافتراضية. وقفاتنا التضامنية لم تتجاوز أسوار سفارات الدول المكتوية بنار التطرف والشر، صورنا المغطاة بالأعلام الملونة والسوداء لم تصد همجية عصابة “داعش” الغدارة، أما وحوش الرأسمالية فهم ماضون في الاستخفاف بعقولنا وعواطفنا. سنقف إلى جانب الشعوب المسالمة، ليس من أجل استرجاع ما نهبتنا أنظمتهم على مر العصور، وسنجدد دعمنا لمتحف باردو، وفندق باماكو، ومسرح “الباتاكلان”، وطائرة سيناء، وملعب فرنسا، وحافلة الأمن، وجنوب بيروت؛ ليعلموا أننا سنقاتل إيمانًا بإمساك هولاند وأوباما وأردوغان عن مواصلة تخريب أسس التعايش والسلم العالمي من أجل ما وهبهم هذا الكوكب من ثروات صاروا يعبدونها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست