عوَّدتنا القضية الفلسطينية أن نعيش كل يوم في موقف أكثر صعوبة من اليوم الذي قبله، وبينما كان يتم التلاعب بالقضية وفقا للمصالح السياسية لبلدان المنطقة والعالم، نجح الفلسطينيون في الإبقاء على قضيتهم حية وصامدة طوال هذه السنوات، وهذا إنجاز في حد ذاته، لكن الغريب أنها لم تتوقف في كثير من المواقف عن مفاجأتنا بتحويل هذه المواقف الصعبة لانتصارات ربما تكون صغيرة لكنها حافظت على أنفاس القضية حتى يومنا هذا.

فقد شهد تاريخ القضية الفلسطينية الكثير من الصدمات بداية بالنكبة فالنكسة ثم أحداث أيلول الأسود في الأردن، فالحرب الأهلية في لبنان وتوقيع مصر لكامب ديفيد وخروجها من الصراع العربي الإسرائيلي، وسقوط العراق في حرب الخليج، واحتلال العراق ليعود العرب وينقسموا على أنفسهم ما بين ممانعة واعتدال، وتنقسم معها فلسطين أيضا إلى ممانعة واعتدال،أو بمعنى آخر حماس وفتح أو غزة ورام الله.

لكن التحول الأخير الذي شهدته المنطقة عقب ثورات الربيع العربي وضع القضية الفلسطينية في موقف أكثر قتامة بعد أن فشلت الثورات في تحقيق أهدافها وانخرطت الدول العربية في صراعات طائفية وعرقية وحزبية.. إلخ.

فإذا ما نظرنا إلى الحدود الشرقية سنجد أن غزة التي كانت حركة حماس تشكو من حصار إسرائيل ونظام مبارك لها، زاد وضعها سوءًا مع سقوط حكم الإخوان بعد عام من توليه الحكم، وباتت تتحمل إضافة للحصار المعتاد، عداء النظام المصري إضافة لعداء شريحة كبيرة من الشعب المصري أيضا في سابقة لم تحدث من قبل، وذلك بعد أن وجدت حماس نفسها مجبرة على تحمل تبعات كل ما يجري في الداخل المصري من خلافات سياسية وعمليات إرهابية على أرض سيناء.

وبغض النظر عن حالة العداء بين مصر وحماس، فإن النظام المصري أصبح في وضع حرج يعجز فيه عن تقديم أي نوع من أنواع الدعم الحقيقي للقضية الفلسطينية سواء في غزة أو رام الله، هذا إن لم يكن يمثل تهديدًا حقيقيا علي حركة حماس إذا ما افترضنا سوء النية.

وبالانتقال إلى الجبهة الشرقية فسنجد أن الأردن ما زالت على موقفها من القضية الفلسطينية، والذي يقتصر على الوساطات ومحاولات التهدئة الدبلوماسية التي لا تجدي مع العدو الإسرائيلي، بينما أصبحت الجبهة السورية – دولة المواجهة الوحيدة التي كانت تقود تكتل “الممانعة” – تعاني من صراع النظام مع قوى المعارضة المختلفة، وباتت الجبهة السورية محطمة إلى الحد الذي وصل بقيام إسرائيل بقصف مواقع تابعة للنظام السوري في الجولان عدة مرات دون أن يفكر النظام المتهالك في الرد ولو بطلقة واحدة!

أما الحدود اللبنانية فسنجدها في حالة انكماش دفاعي تام، وتخوف من انتقال حمى الصراعات في سوريا إلى الداخل اللبناني، خاصة وأن حزب الله طرف ولاعب أساسي في المواجهات المسلحة في سوريا.

 

وإذا ما نظرنا إلى المحيط العربي الأوسع سنجد أن العراق بات في وضع شبيه بسوريا إلى حد كبير، كما سنجد أن دول المغرب العربي خارج دائرة الصراع تقريبا، وأن دول الخليج منشغلة بالأوضاع في سوريا ومصر، والأهم من ذلك محاولات تقويض ودرء الخطر الإيراني.

لذلك يمكننا القول باختصار أن الدور العربي بات عاجزًا عن تقديم أي شيء للقضية الفلسطينية، وحتى عبارات التنديد المعتادة باتت تمثل حملا على بعض هذه الأنظمة، واقتصر الأمر على بعض المنح من دول الخليج للسلطة الفلسطينية حفظًا لماء الوجه، إضافة لدعم قطر المستمر لحركة حماس، وهو السبب الرئيسي الذي دفع الفلسطينيين للبحث عن داعمين جدد لقضيتهم، فزاد اعتماد حماس على تركيا ومن بعدها إيران التي انشغلت هي أيضًا بالملفين السوري والعراقي، بينما لجأت السلطة إلى الدول الأوروبية، وحقق كلاهما نجاحات كبيرة في ظل ظروف غاية في الصعوبة، فقد نجحت حماس في تطوير سلاحها بشكل ملحوظ وهو ما ظهر في الحرب الأخيرة مع إسرائيل من خلال الضربات الموجعة التي وجهتها حماس لإسرائيل لأول مرة في تاريخها.

على الجانب الآخر، حققت حركة فتح نجاحات دبلوماسية مستفيدة من الدعم العالمي والغربي المتزايد لها كل يوم، والتي بدأت باعتراف الأمم المتحدة في نوفمبر 2012 بدولة فلسطين كعضو مراقب، لتستمر في تحقيق النجاحات والتي كان أبرزها اعتراف السويد بدولة فلسطين في سابقة هي الأولى من نوعها على مستوى الدول الغربية. ليقوم بعدها البرلمان الفرنسي بالتصويت على قرار يدعو الحكومة الفرنسية للاعتراف بفلسطين بموافقة 339 عضوًا دعموا الاعتراف مقابل 151 عضوًا فقط رفضوا الاعتراف، وهو ما يمثل ضربة موجعة لإسرائيل، ويمثل رسالة واضحة ملخصها أنه لا بد من وجود حل، وأن فكرة المماطلة والتسويف التي تتبناها إسرائيل لم تعد ترضي الشريك الأوروبي، وعبر عن ذلك بيان الحكومة الفرنسية الذي قال في لهجة حاسمة: “إذا فشلت جهود التفاوض في التوصل لحل نهائي ستفعل باريس ما يجب فعله وهو الاعتراف بفلسطين دون أي تأخير”.

ولعل موقف البرلمان الفرنسي إضافة لمواقف مماثلة من دول ذات ثقل في الاتحاد الأوروبي مثل بريطانيا وإسبانيا يمثل صفعة قوية لإسرائيل، وتنتظر فلسطين خطوات أخرى لا تقل جدية من خلال تصويت البرلمان الأوروبي وكذلك البرلمان البلجيكي، وإن كانت جميع هذه التصويتات غير ملزمة لحكوماتها إلا أنها تعبر عن غضب أوروبي متصاعد من السياسات الإسرائيلية في المنطقة، وتؤكد أن الموقف الأوروبي لن يتوقف عند هذا الحد، وبات الأمر أشبه بكرة الثلج التي ستطال معظم دول الاتحاد الأوروبي إن لم يكن جميعها.

وبغض النظر عن الموقف الأخلاقي، فقد بدا واضحًا أن القرارات التي اتخذتها البرلمانات الأوروبية لم تأت بسبب ضغوط عربية، وإنما جاءت بعد أن شعرت بخطر حقيقي يهدد مصالحها بسبب ممارسات إسرائيل في المنطقة التي ساهمت في ازدياد أعداد المؤيدين للتيارات المتطرفة في المنطقة.

كل ما سبق يجعل من مصلحة القضية الفلسطينية الإبقاء على الطرفين فتح وحماس في المعادلة السياسية الفلسطينية، وأن الحديث عن إسقاط أحد الطرفين يضر بالقضية الفلسطينية في المقام الأول، بل وأرى على عكس السائد في الرأي العام أن فكرة المصالحة في الوقت الراهن قد تضر بالقضية الفلسطينية أكثر من الانقسام؛ لأن وجود حكومة واحدة سيزيد الضغوط عليها وسيجبرها على التخلي على أحد الخيارين (المقاومة أو المفاوضة). وهو ما تحتاجهما القضية بمعنى الكلمة حاليا، فتفاوض فتح دون التلويح بورقة حماس يضعف موقفها بشدة في أثناء التفاوض، بينما وجود بندقية حماس وحدها لن يحل القضية بالتأكيد في ظل عدم توازن القوى.

كل هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أننا ندعم الفرقة والخصام والعداوة بين الطرفين، ولكننا ندعم المصالحة “السرية” أو التوافقات – إذا صحت التسمية – في هذه المرحلة حتى نحقق أقصى استفادة ممكنة، وعلى المجتمع الدولي وإسرائيل أن يختارا ما بين التفاوض مع فتح وتنفيذ حل الدولتين، أو أن يجدوا أنفسهم في مواجهة سلاح المقاومة المتمثل في حماس؟ وأن يتحملوا كذلك ازدياد قوة ونفوذ التيارات المتطرفة في المنطقة.

لذلك لا مفر للقضية الفلسطينية إذا ما أرادت النجاح، إلا أن تحلق بجناحين (فتح وحماس) أحدهما يضرب والآخر يتفاوض، ليبقى الخيار كما قال الزعيم الراحل ياسر عرفات مقولته الشهيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974: “أتيت إلى هنا حاملا غصن الزيتون بيد وبندقية المقاتل من أجل الحرية في الأخرى. فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي”.

ومن يدري فربما كان أبو عمار يعني بغصن الزيتون حركة فتح، وبالبندقية حركة حماس. وعلى المجتمع الدولي أن يختار وأن يتحمل اختياراته.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد