يظن البعض أن كلمة الحق والصدع بها أمر يسير تستطيع أن تكون من أصحابها متى شئت ويمكنك إذا أردت أن تتخذ الموقف الذي لا تحابي فيه أحدًا مهما كانت خسائرك أو شدة التيار المندفع نحوك.
لكنني تعلمت من حياة عالم جليل فقدناه قبل أسابيع أن كلمة الحق حياة قبل أن تكون قولًا يتلفظ به، كنا نرى الشيخ ونسمع كلماته الهادرة كأزيز يخترق حاجز الصوت فنعرف أن تلك الكلمات لا ينطق بها لسانه بل هي أنفاس صدره الحرى ولهيب فؤاده الموجوع على أمته.
ولا يكون الموقف الصادق ولا تخرج الكلمة القرآنية إلا حين تحيا بها القلوب فتفيض الألسن بها دون تكلف أو عناء.
أما هذا الشيخ فقد كان صادقًا مخلصًا يصل إلى قلبك فيحدث به أثرًا لا تملك له دفعًا ولأن هذا الأثر بهذه القوة والصدق الذي لا يستطيع أن ينكره إلا متعنّت تجد بعضهم يقتطع الكلام من سياقه ليجعله في صفه وهو الذي لم يكن يومًا إلا في صف الحق الواضح الصريح!
أذكر أنه في أحد الأيام البعيدة أبدى أبي اهتمامًا خاصًا بضيف برنامج الإذاعة الشهير: شاهد على العصر، ودعانا للاستماع إلى شهادته، كانت تلك هي المرة الأولى التي أسمع فيها ذلك العالِم الذي لا يخشى في الله لومة لائم.
عالم يرتفع صوته حرقة على أمته وأداء لأمانة الشهادة، وعرفت حينها أنه ليس ضيفًا خاصًا يستحق الاهتمام وحسب، بل هو عالم ينبغي أن يُقتفى أثره ويُستقى من معين حكمته وله حق أن يُحمل في القلوب والأعين وفوق الرؤوس.
ولأن صوته كان يهدر بكلمات الحق الخالدة، وبآيات الله القاطعة لم يكن صوته هو الأكثر حضورًا في إعلامنا، بل أرادوا أن يجعلوه مطمورًا في ركام أصوات تداهن وترائي، ومع ذلك ظلت لقاءاته القليلة هي الأعلى صوتًا والأصدق حديثًا.
كان مما ميز الشيخ الراوي مع صدحه بالحق هو علاقته بالقرآن، رجل تستطيع أن تقول عنه: إذا أردت أن تعرف صاحب القرآن كيف يكون، فانظر إلى هذا الرجل.
ما زلت أذكر حلقاته القديمة على قناة اقرأ التي كان يدعو الناس فيها بالقرآن، لا يتكلم بكلام وعظ أو تذكير من عنده كما يفعل غالب الدعاة، بل يطلب منك فقط أن تسمع القرآن ويُسمعك إياه من قلب مُلئ خشية وحبًا وتعلقًا بهذه الكلمات الحية، تشعر بروح القرآن تسري في صوته، وتمنحه تلك القوة التي يقرأ بها والتي يزفر بها في رسائله لأبناء أمته.
كان العالِم الذي فهم رسالة ربه في القرآن يدرك مدى الخسارة التي لحقت بالعالم جراء تخلي الأمة التي منحها الله شرف القرآن عن دورها في تبليغ الرسالة وتعريف البشرية بكلمة ربها، لذلك كانت كلماته كلها غيرة على هذا الكتاب العزيز أن تطوى رسائله ولا يعمل بها أو تبلغ. إلا أنه كان يقرر في حزم أن المستقبل للحق، وأن الأمة التي تحمل القرآن ستنتصر حين تعرف حقه وتؤدي مطلوبه، فإن لم تقم بذلك الآن «فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍۢ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَآئِمٍۢ ۚ».
ولأننا أمة لا تنتبه لكبرائها حتى يغادروها، فإن أقل القليل وفاء لهذا الرجل الذي بلغ رسالته وأدى أمانة علمه، ووفاء لكتاب الله الذي رفع قدر هذا الرجل، أحب أن نتذكر بعض أهم رسائله وننشرها ونسعى في العمل بها:
– (خاطبوا الناس بدينها وبما أنزل الله إليها).
فلعلنا ننتبه إلى أننا أمة قوتها وسلاحها الحق هو منهجها المنزل من السماء، وجب علينا أن نعيد النظر في وسائل بقائنا ومقاومتنا ونجعل القرآن مردها كما أوصى الشيخ.
– (أدعو الأمة أن تتآلف وتعتصم بحبل الله).
يقسم الشيخ أننا لو تآلفنا ساعة لراجع كل أعدائنا مواقفهم منا، فهل نسعى لذلك التآلف على المستوى الشعبي، أو في دوائرنا التي نتحرك بها؟
– (لحساب من؟) كانت دعوة من الشيخ في أحد اللقاءات به لأن نفهم كيف تدار الأمور وأن ندرك مرمى خصوم الإسلام وأعدائه المتربصين به فلا نعينهم بجهلنا وخوضنا في باطلهم دون تمييز، بل تكون لنا وسائلنا التي نبلغ من خلالها دعوة الحق واضحة نقية.
رحم الله العالم الجليل الشيخ محمد محمد الراوي وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء وعوض الأمة في مصيبة فقده بعلماء صدق لا يخشون أحدًا إلا الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست