(أيُّ دين تحمله الجزائر للشيخ.. )

ولد عبد الحميد بن باديس الصنهاجي في 4 ديسمبر (كانون الأول) 1889 بمدينة قسنطينة، نشأ وترعرع في بيئة علمية، حفظ القرآن وهو في الثالثة عشرة من عمره، تتلمذ على العديد من المشايخ منهم أحمد أبو حمدان الونيسي، الذي كان له عظيم الأثر في اتجاه ابن باديس الديني، وكانت الزيتونة أول رحلة علمية له سنة 1908 وتخرج منها سنة 1912 وبقيَ هناك عامًا آخر قبل العودة إلى الجزائر وشروعه في إلقاء الدروس في الجامع الكبير بمسقط رأسه، ليشهد حملة شرسة من أعداء الإصلاح حالت دون إتمام مهامه الإصلاحية التي عاد من أجلها.

قرّر الشيخ شدَّ الرحال إلى بعض أقطار المشرق العربي، وبعد أداء فريضة الحج مكث في المدينة ثلاثة أشهر وفيها التقى بشيخه ومعلمه السابق الونيسي ورفيق دربه (فيما بعد) البشير الإبراهيمي، كان ينوي الإقامة الدائمة في السعودية وفق مشورة شيخه الونيسي، إلا أن الشيخ حسين أحمد الهندي أشار عليه بالرجوع إلى الجزائر لحاجتها إليه في ذاك الوقت، ليعود مجددًا إلى الجزائر سنة 1913.

شعبُ الجزائرِ مسلمٌ *** وإلى العروبة ينتسب

يروى أنّ الشيخ ابن باديس زار ذات مرة إحدى القرى التي خيَّم فيها الجهل، والموغلة في ظلام الضلالات، فشكى إليه أحد شيوخها من أنَّ الناس لا يستجيبون لدعوة أحد، ولا ينفع فيهم وعظ وقال وكله حسره «يا شيخ ابن باديس لقد أسمعت لو ناديت حيًّا لكن لا حياة لمن تنادي»، وهنا بادره الشيخ عبد الحميد مصححًا «لا تقل لا حياة لمن تنادي بل قلّ لا منادي ينادي».

هكذا كان ابن باديس يقرأ الأمة ويفهما كالذي يقرأ الكتاب ويفهمه، يعرف مكمن الداء ومن خلاله يصف الدواء، فلقد أخذ الشيخ على عاتقه مسؤولية بعث الجزائر العربية المسلمة، فدأبَ على العمل طوال حياته، فلقد اعترض الشيخ في بداية طريقه ضلالات ما أنزل الله بها من سلطان.

وفي سبيل هذا شرع الشيخ في إلقاء دروسه على منابر المساجد وهذه المرة برخصة من السلطات، ثم اهتدى إلى تأسيس جريدة الشهاب (1924) التي سرعان ما تحولت إلى مجلة شهرية تصدر بصفة منتظمة إلى غاية اندلاع الحرب العالمية سنة 1939، بالإضافة إلى جريدة البصائر، اتبع فيها منهاجه القائم أساسًا على التربية والتعليم، وهي التوجهات نفسها التي انطلقت بها جمعية العلماء المسلمين فيما بعد، والذي استهدف منطلقين رئيسين:

الأول: إحياء مجد الدين الإسلامي : من خلال إقامته مثل ما أمر الله أنّ يُقام، وذلك بتصحيح أركانه الأربعة (العقيدة، العبادة، المعاملات، الأخلاق)، ومحاربة البدع والضلالات المنتشرة.

الثاني: إحياء مجد اللغة العربية: فهي لسان حال الأمة، وما ضاعت أمم إلا بضياع لغتها.

وهناك نقطة ثالثة ضمنية كان يُشار إليها، وهي إيقاظ الحماسة في قلوب الجزائريين، التي بذل الاحتلال جهده لإطفائها من خلال اعتماد مادة التربية الوطنية التي اتخذها الشيخ حجر الزاوية لغرس الروح الوطنية في نفوس الأجيال الناشئة، وبث الوعي السياسي، وهذا انعكاس لما في نفس الشيخ، إذ يقول في مقاله الصادر في جريدة المنتقد «إننا نُحب الإنسانية ونعتبرها كُلًّا ونحب (وطننا) ونعتبره جزءًا منها ونحب من يحب الإنسانية ويخدمها، ونبغض من يبغضها ويظلمها، وبالأخرى نحب من يحب وطننا الجزائر، ونبغض من يبغضه ويظلمه، فلهذا نبذل غاية الجهد في خدمة وطننا الجزائر، ونحبب بنيه فيه، ونخلص لكل من يخلص له، ونناوئ من يناوئه من بنيه وغير بنيه»

الأم مدرسة إذا أعددتها *** أعددت شعبًا طيّب الأعراق

كما أولى ابن باديس من خلال جمعية العلماء المسلمين اهتمامًا بالغًا، وعناية قصوى بتعليم الفتاة الجزائرية المسلمة؛ إذ خصها بدروس في المساجد التي كان الشيخ يُلقي فيها دروس الوعظ والإرشاد، ودروس خصوصية في مقاعد الجمعية بشكل يُلائم طبيعتهن، وهذا بالرغم من وطأة الأعراف والتقاليد البالية السائدة آنذاك، والتي ترى في تعليم الفتاة أمرًا مستهجنًا ومرفوضًا عرفًا.

رحل الشيخ في 16 أبريل (نيسان) 1940، بعد صراع مع المرض يشبه في ذلك صراعه المرير مع الأفكار والتقاليد والضلالات، رحل وبقيت مناقبه التي لا يستطيع أيُّ جزائري حرّ إنكارها، رحل وبقيَ هذا التاريخ شاهدًا على ثورة الإصلاح التي افتتحها، واليوم لا يكاد يختلف جزائريان على مساهمة الشيخ في نهضة الجزائر الجريحة آنذاك، وبأنه – رحمه الله – المهندس الحقيقي لنهضة وتاريخ الجزائر.

وفي هذا الصدّد نستحضر مقولة مالك بن نبي، وهو مفكر نحسبه من طينة ابن باديس، رحمة الله عليهم، إذ يقول: «كان المجدّد ومهندس تاريخ هذا الوطن، وكان المجدد الذي أعاد وجهة العالم الإسلامي، كما كان من قبل ابن تومرت في أفريقيا الشمالية»، فالمتمعن في أفكار ابن باديس يُدرك أنّ أغلب أفكاره تصب في إطار التحضير للثورة.

ولهاته الأسباب وغيرها ستظل الجزائر مَدينة لهذا الرجل – رحمه الله – ما دام أثره باقيًا ببقاء نضاله الإصلاحي حتى يومنا هذا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

علامات

باديس, ذكرى, شيخ

المصادر

تحميل المزيد