ذكر صاحب الأمالي أن أبا العباس بن الفرج قال: سمع الأصمعي رجلًا يدعو ربه ويقول في دعائه: (يا ذو الجلال والإكرام)! فقال له الأصمعي: ما اسمك؟ قال: ليث؛ فأنشد الأصمعي:
ينادي ربه باللحن ليثٌ لذاك إذا دعاه لا يجاب
لم يعد الأمر كما كان، ولو أن سقراط يذرع الأرض الآن؛ لأحجم عن كثير من مقولاته، أو عدل فيها وبدل لتوافق الحياة التي نعيشها، ومن ذلك قوله: (تكلم حتى أراك)، ومع أننا لا نختلف حول المبدأ، لاسيما وأنه في نهج البلاغة: (تكلموا تُعرفوا؛ فإن المرء مخبوء تحت لسانه)، لكن اليوم أصبح الكثيرون يغردون ويكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما يجتمعون ويتناقشون ويتحاورون، وعليه فزادت مساحة العزلة والانطوائية، وتراجع الكلام بينهم تراجعًا ملحوظًًا، وتوارى الناس خلف هواتفهم.
انتقل العي من آلة البيان (اللسان) إلى آلة النسخ والنقل والتغريد (اليد)، واستحال تلوث اللغة من سمعي إلى بصري. ترى رجالات في مستويات أدبية وفكرية وثقافية رفيعة؛ فإذا كتبوا أو غردوا بأن خطأه واتضح خطله، ولم يقتصر العجز عندهم في لحن اللسان، ولم يدر بخلده أن خطأ الكاتب أشد قبحًا من خطأ المتحدث ارتجالًا، ولا نقرر بذلك خطأ الخطيب والمتحدث، ولكن نعترف بالحقيقة التي لا مناص منها. أمام الكاتب غير فرصة للمراجعة والتحقيق، في حين لا يملك المرء إذا ارتجل الكلمة أن يردها، وقديمًا كانت مهارة الكتابة ترتقي بصاحبها ليجلس على كرسي الوزارة، ما يدل على جلال الكلمة المكتوبة وتأثيرها في النفوس.
إذا أضفنا بعدًا جديدًا لما سبق، الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، ونقصد به أن الزلل الكتابي يراه الناس قاطبة، وقد يغتفر للمرء مرة أو مرتين؛ فإذا أصبح التحرش باللغة واغتصاب الهمزات وعلامات الترقيم، أو إضافتها للجمل والفقرات إضافة الملح للطعام؛ فهذا ما لا تقبله الأعين ولا الأنفس السوية لغويًا. قد تسمع الكلمة العوراء ويجرح لحنها أذنك، لكن صدقًا ألم الكلمة المكتوبة أشد إيلامًا إن كانت خاطئة؛ أليس كذلك؟
قد يثلج صدرك ويريح قلبك أن تلك الأخطاء ليست عصية على الاستدراك؛ فالخطب أهون من أن يبلغ بك اليأس، ويتعين عليك أن تعرف الأخطاء الشائعة، ثم تجتهد أن تراقب كتابتك وتنقحها أكثر من مرة، ولا حرج أن تستعين بمدقق لغوي إن لم تطمئن لسلامة لغتك، أو أن تتعلم الكتابة الصحيحة وبين عينيك قول عبد الملك بن مروان: اللحن في الكلام أقبح من آثار الجدري في الوجه؛ فما بالك باللحن الكتابي؟ لعلك شاهدت اللافتات التجارية وعبثها باللغة، لا أكلمك عن كوارث الترجمة فهذا هم آخر، لكن أعني الكتابة بالعربية على نحوٍ مؤسف.
لا يتيح لك «تويتر» التعديل على التغريدة بعد نشرها، وعليك أن تتريث قبل إرسال تغريدتك؛ ففي التأني السلامة وفي أغلب العجلة الندامة. الأمر أيسر في «فيسبوك» و«إنستجرام» مقارنة بتغريدات «تويتر»؛ فالتعديل متاح بهذين الموقعين، واستدراك الأخطاء بهما يقلل الحرج ويحفظ ماء الوجه.
نقع في الأخطاء اللغوية (النحوية والصرفية والإملائية) فرادى وجماعات ومؤسسات كبيرة بما فيها المؤسسات الإعلامية! وهذه الأخطاء تتباين أسبابها إما للسهو أو للبس أو التعمد، وقد تكون محاولة السبق وتقديم الأخبار العاجلة وتغطية الأحداث الساخنة لها يد. يمكننا تفادي مختلف الأسباب إن راجعنا ما نكتب وتعلمنا من أخطاء غيرنا، وليس عيبًا أن تجلس في مقعد دراسي أو أن تلتحق بدورة تدريبية أو تأهيلية لتحسين مستواك في النحو والصرف والإملاء؛ فقد كان عبد الملك الأصمعي يدرِّسُ طلاب العلم، وريثما ينتهي الدرس يحمل ألواحه ويدور على حلقات شيوخ العلم بمسجد البصرة أمثال أبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي محرز خلف بن حيان الأحمر وغيرهم، ولم يتعلل بالانشغال والمسؤوليات الجسيمة.
توضح الصورة الأخطاء اللغوية لوزير التعليم السعودي الدكتور أحمد العيسى، والتي جاءت ضمن رسالة خطها بيده العام الدراسي الماضي (2018/2017) للمرابطين بالحد الجنوبي، وفق تعبير المصدر، وكان الوزير قد كتب الرسالة أثناء زيارته لمدرسة نعيم بن مسعود بمكة المكرمة. صحح مدرس اللغة العربية، عبد الخالق الزهراني، أخطاء الوزير باللون الأحمر في الصورة، وقيَّم مستوى الوزير بثلاث درجات من 10 في الإملاء! وتكررت أخطاء الوزير اللغوية ولكن الضاد لا بواكي لها!
وفي مصر قبل ثلاث سنوات، لم يكن وزير التعليم الهلالي الشربيني أفضل من نظيره السعودي؛ فوصفته بعض الصحف بأنه “واقع في الإملاء“! ومع ذلك لا يتورع الوزير عن تشويه اللغة بتغريداته المتلاحقة؛ وراعي الشاة يحمي الذئب عنها؛ فكيف إذا الرعاة لها الذئاب؟!
أشهر الأخطاء الكتابية على مواقع التواصل يمكن اختصارها في:
1- الخلط بين التاء المربوطة والهاء، أو بين الضاد والظاء، أيضًا بين الياء والألف المقصورة.
بالنسبة للتاء المربوطة والهاء؛ فالإشكال مبعثه الوقف ويزول بالوصل، لأنك إن قرأت (صناعة) ووقفت على آخر الكلمة نطقتها هاءً، ويلزمك أن تصل الكلمة بما بعدها في القراءة؛ فإن نطقت التاء عند الوصل (صناعةُ النسيج، صناعةٌ محليةٌ) دلك ذلك على أنها تاء مربوطة. العبرة في الكتابة مراعاة النطق حال الوصل، وعليه فإنك إن قرأت (صنعهُ النساج، صنعهُ الحذاق) لوجدت الهاء ظاهرة في الوصل؛ فتكتبها هاءً وأنت هانئ البال.
قد يدور ببالك السؤال عن الفرق بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة، وقد أسلفنا القول أن التاء المربوطة تُقرأ هاءً عند الوقف وتاءً عند الوصل، لكن التاء المفتوحة لا تُقرأ هاءً عند الوقف ولا عند الوصل؛ فتقول (بنت، سمت) وتقول (بنت الأكرمين، سمت الصالحين).
في مصر، لا يقع أغلب المصريون في إشكالية التفريق بين الضاد والظاء، لكن بعض الدول العربية يختلط على أبنائها، فقد تكلم النظام في الفرق بينهما، وأفاض غيره من أهل اللغة وربما يكون هذا ما دفع ابن الحداد المهدوي لتأليف رسالته حصر حرف الظاء وفيها جمع كلمات اللغة العربية المحتوية على الظاء؛ فوجدها 93 كلمة بما فيها الغريب والمهجور؛ فإذا استبعدنا الغريب منها لوجدناها حوالي 32 كلمة. ومن حسنات الكتاب أنه يقدم لك طريقة يسيرة جدًا للتفريق بين الحرفين؛ فيرشدك إلى أن أي كلمة تبدأ بالحروف الهجائية (الألف، التاء، الثاء، الذال، الزاي، الطاء، الصاد، الضاد، السين)، لن تتضمن حرف الظاء مطلقًا.
أبسط الطرق للتمييز بين الياء والألف المقصورة أن تقرأ الكلمة بعد إضافة التنوين إليها؛ فإن نطقت الياء (اقتصادي، اجتماعي، سياسي) فهذه الياء، أما لو نطقتها ألفًا (حتَّى، إلى، على، فتوى) فهي ألف مقصورة.
2- عدم التمييز بين همزتي الوصل والقطع، ثم الخلط بين همزة القطع المفتوحة والمكسورة.
يتبع ذلك إضافة همزة القطع للكلمات التي لا تقبل همزة القطع مثل (ابن، ابنة)، كما أن البعض يضيف همزة الوصل لكلمة (ابن) بالرغم من وقوعها بين علمين. والطريقة الأسهل للتعرف على نوع الهمزة أن تضع (الفاء/ الواو) قبل الفعل أو الاسم؛ فإن ظهرت الهمزة في النطق بعدهما كانت همزة قطع (وأحمد، فأستجيرُ)، وإن لم تظهر كانت همزة وصل (واستعن، وابن). يدخل في هذا الإطار، إلحاق جمع المذكر السالم عند الإضافة بألف، وهو خطأ شائع جدًا؛ فعلى سبيل الذكر (المسلمون في الصين= مسلمو الصين)، لكن البعض يضيف الألف لتصبح (مسلموا الصين).
هذه الألف لا تلحق جمع المذكر السالم، لأن الواو في جمع المذكر السالم علامة إعراب وليست ضميرًا. تدعى الألف الفارقة كما تعرف كذلك بألف الفصل؛ لأنها تضاف في آخر الأفعال بعد واو الجماعة للتمييز بين واو الفعل الأصلية (يرجو، يصبو، يدعو) وبين واو الجماعة، أو للفصل بين واو العطف وواو الجماعة. من أمثلة الألف الفارقة ما نجده في قوله تعالى: الَّذينَ آمنوا وكانوا مسلمين؛ فتراها آخر الفعلين (آمنوا، كانوا).
3- علامات الترقيم
وما أدراك ما علامات الترقيم! تئن وتشتكي من سوء تعامل أهل الضاد معها؛ فترى من يظنها ترفًا لا قيمة له، أو أنها من سقط المتاع؛ فلا يحفل بها ولا يأبه باستعمالها، ومنهم من عاهد الله ألا يستخدمها جملة وتفصيلًا، ومنهم من يعطف عليها وفق هواه. لم يستوعب هؤلاء أن علامات الترقيم توصل معنى، أو تدل القارئ على خفايا ما يبثه الكاتب لقارئه، ولها ضوابط يجب مراعاتها منها:
– أن يضم القوسان وعلامتا التنصيص ما بينهما ضمًا حميمًا؛ فلا نكتب: ( اليوم العالمي للغة العربية يوافق 18 ديسمبر )، بل نكتبها: (اليوم العالمي للغة العربية يوافق 18 ديسمبر).
– أن تتشبث الفاصلة العربية (،) بما قبلها؛ فلا تلتصق بما بعدها ولا تقف وحدها. لا نكتب: (اللغة حياة ،والإنسان يعيش بلغته) كما لا نكتب: (اللغة حياة ،والإنسان يعيش بلغته)، إنما نكتب: (اللغة حياة، والإنسان يعيش بلغته). كذلك، لا تخلط بين الفاصلة العربية (،) والفاصلة الأجنبية (,).
– لا نترك مسافة بين علامة التعجب أو علامة الاستفهام أو النقطتين الرأسيتين وما قبلها؛ فلنكتب: (ما أجمل مراعاة الترقيم في الكتابة!)، وكذلك نكتب: (متى نحسن الكتابة بلغتنا الأم؟). الأمر نفسه ينسحب على الجملة الاعتراضية؛ فلا تكتب: (تطورت اللغة – وفق الدراسات – بشكل مذهل)، واكتبها: (تطورت اللغة -وفق الدراسات- بشكل مذهل).
هذه مجرد إرشادات أولية وبها نخفف حدة الأخطاء اللغوية الواردة في التغريدات والكتابة بشكل عام، والأمر هين لمن أراد أن يطور من نفسه ويحسن من كتابته. كما توجد مبادرات محمودة على مواقع التواصل الاجتماعي لحماية اللغة العربية من عبث الأخطاء، وعدد من المواقع ذات الصلة باللغة العربية يمكن الاستعانة بها في تحسين المستوى اللغوي قراءة وكتابة.
مجموعة من القواميس والمعاجم الإلكترونية المفيدة:
يتيح لك فهم معنى الكلمة وطريقة رسمها منفصلة، ومرادفات الكلمة وأضدادها وفوائد لغوية جمة. يحتوي القاموس على لغات عدة، ما يجعله مناسبًا لفهم الكلمة في سياقات متباينة.
يساعدك في البحث السريع عن معنى الكلمات في عدد من معاجم اللغة الموثوقة، ومن بينها لسان العرب لابن منظور، ومقاييس اللغة لابن فارس اللغوي، والقاموس المحيط للفيروز آبادي، والعباب الزاخر واللباب الفاخر للصغاني، وغيرها.
3- موقع معاجم
مزية إضافية في هذا القاموس عبارة عن مجموعة مقاطع فيديو لأخطاء لغوية شائعة وفوائد نحوية، هذا إلى جانب بعض المقالات اللغوية والمقولات العذبة للأدباء والحكماء.
4- عرب ديكت
يعتمد الموقع على عدد من القواميس العربية المعاصرة بالإضافة للقواميس ذائعة الصيت بين أهل الضاد، وتجد في الصفحة الرئيسة للموقع سردًا لهذا المعاجم والقواميس اللغوية والبلاغية. يوفر الموقع عدة لغات، وآلية البحث فيه ميسرة ومفيدة.
5- معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
تكمن المزايا الرئيسة لهذا الكنز الثمين في تقدير الزمن التقريبي لأول مرة استخدمت فيها الكلمات، ربما لا يفيدك كمبتدئ، لكنه على جانب شديد الأهمية لمعرفة تاريخ استعمال اللفظة لأول مرة، وتحولات هذا اللفظ البنيوية والدلالية مع التطور الزمني، ويصاحب ذلك التوثيق الأمين بالشواهد لتطور اللفظة في كل مرحلة.
يتيح موقع شبكة الجزيرة تعلم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وقد يفيدك إن كنت دراستك باللغة الإنجليزية، ويساعدك على التقدم التدريجي وإحراز تحسن ملموس عبر مجموعة من مقاطع الفيديو المبسطة والموجزة.
ولعلك تسأل بعد ذلك: ماذا أفعل؟
دورك الآن، وقد رأيت أن اللحن الكتابي لم يفرِّق بين طالب ابتدائي ولا وزير أو حتى رئيس وزراء، أن تركز على:
- مراقبة الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية وتجنب الوقوع فيها.
- لا تخجل من السؤال؛ فلأن تسأل وتسلم خير لك من أن تتعجل بالنشر فتندم.
- اقرأ كثيرًا في كتب اللغة والأدب وأهل الفكر الذين يمتلكون ناصية اللغة.
- إن أخطأت فلا بأس، بشرط أن تتعلم من الخطأ ولا تقع فيه أخرى.
- سجل أخطاءك وأخطاء الآخرين التي ربما تقع فيها، وارجع إليها إن احتجت للتثبت من الصواب.
- لا يكن همك تصيد أخطاء الآخرين، بل التركيز على إظهار الصواب؛ فالحق أحق أن يتبع.
- اقرأ رسالتك غير مرة قبل إرسالها، ولا حرج أن تطلب عون مدقق لغوي.
- زين كتابتك بعلامات الترقيم، واحرص أن تكون في موضعها الصحيح.
- استعن بالمعاجم اللغوية لفهم معنى الكلمة إن أشكل عليك؛ فمثلًا إن عرفت أن أهبة واستعداد بمعنى واحد، عندها لن تكتب (على أهبة الاستعداد)، وإن علمت أن رسم (ومن ثم) في المعجم بفتح الثاء؛ فلن تنطقها أو تكتبها بضم الثاء، وإذا علمت أن (وفقا) بفتح الواو؛ فلن تنطقها أو تكتبها بكسرها، وهذه من أشهر الأخطاء المنطوقة إعلاميًا.
لنقدم لأنفسنا وللغتنا شيئًا ولو يسيرًا في يومها العالمي، ولنحسن التعبير والتحرير والإعراب والبيان؛ فإن ذلك لا يتطلب ميزانية كبيرة ولا يستلزم إسقاط نظام أو تغيير مناهج؛ بل يستلزم إرادة صادقة من غيور على لغته، وعلى الله قصد السبيل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
اللغة العربية