مقتل جورج فلويد، في السنة الماضية لم يكن مجرد حادثة أعادت إثارة الجدل حول عنف الشرطة والتمييز العنصري ضد الأفارقة الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية؛ بل فرصة تاريخية لإعادة تقييم التاريخ. ما أشير إليه هنا هو الحملة التي صاحبت هذا الحادث والتي استهدفت تخريب وإزالة مجموعة من التماثيل والنصب التذكارية لشخصيات تاريخية طبعت الماضي الأمريكي بمواقف كرست التمييز العنصري، وطبّعت مع ممارسات العبودية والاستغلال. شخصيات كثيرة ذات حمولة رمزية وسياسية؛ مثل كريستوفر كولومبوس، طوماس جيفرسون، جورج واشنطن وآخرين، تم استهداف نصبهم التذكارية احتجاجًا على تاريخهم العنصري. حملة تقييم التاريخ هذه لم تقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية؛ بل تعدتها وامتدت لبلدان أخرى مثل بريطانيا، وبلجيكا ونيوزيلندا.
لكن ما علاقة هذا بنا نحن، نحن شعوب شمال أفريقيا والشرق الأوسط؟ ألم يحن الوقت بعد لإسقاط أصنامنا؟ أليس الوقت مناسبًا لتقييم موروثنا وغربلته؟ ما أقصده بإسقاط الأصنام، ليس عملية إزالة النصب التذكارية التي عرف أصحابها بمواقف عنصرية في بعدها المادي، مثل تمثال المتنبي في بغداد؛ بل في بعدها الرمزي والفكري والثقافي.
مساءلة موروثنا الفكري يقتضي إعادة النظر في العديد من الشوائب العالقة بالتراث، والتي يتم غض النظر عنها ومحاولة طمسها. المذاهب الدينية، الشعر، الفلسفة، الفكر، الأمثال الشعبية وميادين أخرى، كلها بحاجة لإعادة الغربلة. وشخصيات تاريخية مثل أنس بن مالك، الطبري، ابن بطوطة، ابن خلدون، المتنبي، المنصور الذهبي وآخرين، كلها شخصيات يحتفظ لها التاريخ بمواقف عنصرية و«ميزوجينية»، لكننا لا نزال نحتفي بها. لا حاجة لنا هنا بالتفصيل في هذه المواقف. فمثلًا، ابن خلدون الذي عُرف عنه وصف الزنوج بالحيوانات، علَّامة لا يُعلى عليه، ولا يزال يُستشهد به في علم الإجتماع. والمنصور الذهبي الذي قاد حملة جلب العبيد من بلاد السودان، يُعد بطلًا يزين اسمه أسماء المدارس وكتب التاريخ. أما الطبري الذي سبق أرثور دوغوبينو، إلى تصنيف الأعراق والشعوب، فهو إمام المفسرين لدى المؤرخين والفقهاء.
تراثنا الفكري ليس الوحيد الذي يجب أن يخضع لهذه المساءلة. إسقاط الأصنام يقتضي أيضًا غربلة الفكر الغربي المستورد. كانط، هيغل، دايفيد هيوم.. كلها أصنام يشهد لها التاريخ بمواقف عنصرية مقززة؛ وبالتالي وجب إسقاطها.
قد يصف البعض هذه الأحكام باللا منطقية والمبالغ فيها؛ إذ كيف يعقل أن تلغي فكر ابن خلدون مثلًا، وهو صاحب المقدمة والذي أثر فكره في علم الاجتماع؟ جوابي على هذا السؤال سيكون بسؤال آخر. كيف يعقل أن يستمر هذا الفكر الموغل في العنصرية واحتقار الآخر في القرن الحادي والعشرين، عصر حقوق الإنسان، المساواة مع المرأة والتعددية العرقية والإثنية.. إلخ؟ إن الفكر الخالص والصادق والإنساني لا يمكن أن ينتج عن مفكرين، فلاسفة، شعراء، زعماء سياسيين ورجال دين عنصريين وميزوجينيين. إذا استوعبنا هذه الحقيقة، فلن نتردد لحظة بالرمي بكل هؤلاء في مزبلة التاريخ. يجب أن ننظر إلى فكر هؤلاء بعيون القرن الحادي والعشرين، وليس بمنطق عصورهم؛ كي نلتمس لهم الأعذار بدعوى أن الفكر السائد كان كذا وكذا.
تقييم الموروث الفكري يحتاج إلى مساءلة قاسية وقطيعة ابستمولوجية لا ترحم. لكن يبقى السؤال، هل نستطيع حقا إسقاط أصنامنا؟ هل نستطيع حقًا إحداث هذه القطيعة؟ أم أن التعلق المفرط والنوستولجيا التي تربطنا بالماضي تحول دون ذلك؟
فعلًا، قد يكون من غير المنطقي، بل من المستحيل إزالة فكر عمّر لقرون طويلة، ويصل التعلق به إلى حد التقديس. لكن، إن لم يكن بالإمكان إزالته — بدعوى تأثير أصحابه ومساهمتهم في المعرفة الإنسانية – فيجب على الأقل تبيان الجانب الآخر من الحقيقة، ووضع الإصبع على زلاتهم وهفواتهم المتناقضة، كي يبدو الخطاب المزدوج – لهذا الموروث الفكري – واضحًا للعيان.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست