إن تطرق بنا الحديث عن الاختلافات بين البشر فحدث ولا حرج، عن الصحة والمرض، العلم والجهل، الغنى والفقر، الأحجام والأشكال، المؤهلات والقدرات، الجنسيات والبلاد، والطبائع والشخصيات. لكن هذا لا يعني أننا لا نتفق في بعض الأشياء، بل فيها كلها، فإننا نشترك في امتلاك كل منها، لكن بصور وأقدار مختلفة. ومن الأمور التي لكل منا جزء منها لا ينفك عنه، هو الانتظار. فكل إنسان تتبدل الأنفاس داخل رئتيه ينتظر شيئًا ما، وهذه الحالة لا تنقطع عن بعضها دون بعضها الآخر.
ففي اللحظة نفسها وطوال الوقت ترى أحدهم ينتظر نتيجة الامتحان، وآخر ينتظر الحافلة، وأخرى تنتظر مكالمة تليفونية من حبيب، وبعيد ينتظر موعد العودة، وقريب ينتظر الوُد، وآخر ينتظر إنهاء بعض المعاملات واستلام الأوراق، وغيره ينتظر العلاج، والقائمة لا تنتهي إلى أن تصل لمن ينتظر الأذان، أو من ينتظر بدء مسلسله المفضل.
لكن القاعدة الأساسية هي أننا جميعًا ننتظر شيئًا ما، فالانتظار يحتل حيزًا كبيرًا في حياة كل منَّا وإلم نلتفت إلى ذلك. والحقيقة أن أكثريتنا لا يلتفتون إلى ذلك، والسبب هو أننا قد تعودنا الانتظار، فحياة الإنسان بتقلباتها ودورة كفاحه الوجودي فيها لا تخلو أبدًا من انتظار حدث أو أمر ما. وهذا الانتظار ربما يكون باعث أمل في حياة الغد، أو قد يكون أملًا كاذبًا يؤذي النفس ولا تحمد عواقبه. ويحدد ذلك حال المنتظر قبل الانتظار وخلاله.
فمن ينتظر قرارًا يكلل ما قام به مسبقًا من أعمال، سيكون مدعاة لكل أمل وجزاء خير بكل تأكيد. أما من ينتظر المعجزة أن تحدث دون أن يصارح نفسه بقدر تقاعسه فلن يطمئن قلبه أبدًا. وبم أننا ننتظر الغد فهذا يشركنا جميعًا في منظور الأمل، لكن وبحكم أننا لا نعلم شيئًا عن الغد فلكل منَّا نصيب من القلق بشأنه. لذا فلا يمكن للانتظار أن يكون مطمئنًا سوى بالثقة بالله والتوكل عليه، ثم التهيؤ للغد بكل ما أمكننا، نحاول أن نفند الماضي لنقف على حقيقة الحاضر وبعض من شكل المستقبل دون محاباة أو خوف أو قلق.
لنعمل على أنفسنا حتى نتجهز لأصعب الظروف والنتائج.
لأنه لا يمكن أبدًا للإنسان أن يقف مكتوف الأيدي يتمنى أن تتحسن أوضاعه أو أن يتبدل المستقبل ليصبح على سجيته دون سعي. فمثل ذلك من انتظار ما هو إلا مرتع لليأس وخيبة الأمل.
وقد قال في ذلك الرائع نجيب محفوظ: الانتظار محنة، في الانتظار تتمزق أعضاء الأنفس، في الانتظار يموت الزمن وهو يعي موته، والمستقبل يرتكز على مقدمات واضحة ولكنه يحمل نهايات متناقضة، فليعب كل ملهوف من قدح القلق ما شاء.
ويقول الأستاذ فاروق جويدة: ورجعت وحدي في الطريق، اليأس فوق مقاعد الأحزان، يدعوني إلى اللحن الحزين، وذهبت أنت وعشت وحدي كالسجين، هذي سنين العمر ضاعت وانتهى حلم السنين، قد قلت: سوف أعود يومًا عندما يأتي الربيع، وأتى الربيع وبعده كم جاء للدنيا ربيع، والليل يمضي والنهار، في كل يوم أبعث الآمال في قلبي فأنتظر القطار، الناس عادت والربيع أتى وذاق القلب يأس الانتظار، أترى نسيت حبيبتي؟ أم أن تذكرة القطار تمزقت وطويت فيها قصتي؟ يا ليتني قبل الرحيل تركت عندك ساعتي، فلقد ذهبت حبيبتي ونسيت ميعاد القطار.
ومن أهم ما قد يساعدنا على تدارك أوقات الانتظار والاطمئنان بها هو الواقعية.
على الإنسان منَّا أن يكن واقعيًّا مع نفسه ولو بأقل درجة، ليحدد مقوماته وإمكاناته طبقًا لواقعة. فمآل ذلك هو توفير الكثير من الفوضى الفكرية وترشيد الوقت والمجهود، وتجنب الآمال البراقة التي لا تتحقق.
الانتظار المقلق يقتل الشغف، ويصعب الأوقات، ويعلي صورة المجهول على الواقع، فلا تطأ أقدام المنتظرين أبدًا شاطئ الرضا. ذلك النوع من الانتظار هو حالة تقتل في الروح التفاؤل ويخيف صاحبه من أي انتظار مستقبلي، وخاصة لو طال أمده أو أتت عاقبته على غير المعهود، ولا أحد يُحب أن يكن هذا مآله بأي شكل من الأشكال.
أن نسعى لحياة أفضل لهو واجب وفرض عين على كل منَّا. لكن أن نتمنى تلك الحياة منتظرين التغيير والتجديد والتسهيل دون حراك فنحن كمن يحمل دعوة مفتوحه لمزيد من تضييع العمر دون فعل شيء يذكر.
ولأن الانتظار من أصعب الأمور التي يمكن أن تواجه الإنسان، فقد ذكر في القرآن الكريم على صور مخيفة ومقلقة: منها العقوبة على الكافرين والمنكرين في الآخرة.
كما في قوله تعالى في سورة السجدة: «وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ» السجدة: 29.
– في الوعيد بعقوبات الدنيا: كما في قصة نبي الله هود، عليه السلام، لما قال له قومه: «قالوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» الأعراف:70-71
– طلب المعجزة أو انتظارها: وكان هذا لما طلب المشركون والكافرون من النبي محمد، صلّى الله عليه وسلم، أن يأتيهم بآية من عند الله، مثل ما طلبوا أن يقلب لهم الصفا ذهبًا، أو طلبوا أن يسقط عليهم كسفًا من السماء، وغيرها من التحديات والخوارق والمعجزات. كما في قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ» يونس: 20.
ـ وعلى لسان إبليس لما طلب من الله تعالى أن ينظره إلى يوم الوقت المعلوم. كما في قوله تعالى: «قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ* إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» الحجر: 36: 38، ومع علمه بعاقبة فعله المخزى فإنه أراد أن ينظره الله تعالى، ليدخل نفسه في تحد عظيم لا طاقة له به، هو خاسره ويخسر فيه كل من تبعه.
وبحكم أننا جميعًا إلى الموت، فكلنا في انتظار يوم الحساب بلا استثناء، وعليه فإنه من الأولى أن نستعد لهذا اليوم بكل ما أوتينا وألا يغرنا الأمل أو الصحة أو الجاه أو الغنى، فمن ذا يستطع أن يؤخر أو يجنب الموت؟ الإجابة: لا أحد. إذًا فهو الأولى بكل استعداد، لكي يصبح انتظاره مطمئنًا لا سببًا في عدم الرضا عن الحياة أو خوفًا من الآخرة.
هذه دعوة لي ولك، فحاول أن تغير واقعك بكل ما أمكنك، لا تنتظر الفرصة بل اصنعها، وحاول أن تحيا الحياة التي تريدها ولو في مخيلتك أولًا خلال انتظارك لتحقيق أمر آخر. حاول أن تعيش الحياة التي تتمناها أينما تكن فأرض الله واسعة.
لا تلتفت لآراء الناس فيك ولا تنتظر رضاهم، لا تقبل أن تصبح فارسًا في ميدان الانتظار يسخرك قلقه كيفما يشاء، بل كن أنت من يصنع فرصته بذاته ما دامت في نطاق الحلال والمقبول لتجنب خيبة الأمل، لا تنتظر وصارح من تحب إن كان هذا سيريح صدرك، وفر على نفسك معاناة الفكر والقلق، وإن كان الرفض هو الإجابة فخسارة قريبة أفضل من مكسب لا يعرف أمده. وما دام العمل ممكنًا والقدرة قائمة والنية حاضرة فلا تتردد. ورجاؤك حينها لن يخيب، لكن أرجوك لا تجعل الرجاء يتحول إلى تمنٍّ ثم إلى انتظار لا طائل منه. وتذكر قول الله تعالى «وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39)»(النجم)، وكل انتظار بعد سعي لا ولن يعرف له القلق طريقًا.
دُمتم في نعيم الله.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست