أن تستيقظ على أصوات الرصاص والخرطوش والألعاب النارية أو مختنقا برائحة الغاز الُمسيل للدموع هو أمر أصبح معتادًا على مدى تلك السنة فلم يعد غريبًا أن يأتي الغاز إلى فراشنا كل ليلة تقريبًا حتى تلك الليلة والتي اعتدنا من بعدها أشياء أكثر.
الأربعاء 20/11/ 2013 المدينة الجامعية لجامعة الأزهر .. كان الشيخ إمام يغني شيد قصورك قبل أن يقطعه كر وفر وصراخ وسب ولعن مع المزيد من طلقات الخرطوش يكملها الغاز الخانق هى دعوى معتادة للنزول إلى الشارع.
خرج الطلاب كالعادة لقطع الطريق ووصلت قوات الشرطة لإعادتهم لداخل المدينة لتبدأ اشتباكات لا تنتهي غالبًا إلا بدافع الملل .. ولكن تصاعد الأحداث في تلك الليلة أوشى بغير ذلك.
فى بادئ الأمر ظن الجميع أن الشرطة ستحاول استغلال ذلك اليوم لردع الطلاب فيوم الأربعاء معروف لدى الجميع بيوم الشرطة، فالكثير من أبناء الجامعة يعودون إلى أقاليمهم بنهاية الأسبوع الدراسي فيصبح عدد الطلاب قليلًا بشكل ملحوظ.
بدأت الاشتباكات .. الطلاب يبادرون الشرطة بالحجارة والزجاج من خلف بوابة المدينة فترد الشرطة بالغاز والخرطوش ثم يُعكس الأمر في نوبات متكررة. يقف بعض البلطجية بزي مدني في صف الشرطة يُلقون ما تيسر من الزجاج والحجارة على الطلاب أو ربما إليهم لجعل الأمر أكثر سخونة!
يتخذ أحد الطلاب موقعه في مسجد المدينة الواقع بجانب البوابة ممسكًا بالميكرفون للتعليق على الأحداث بشيء من السخرية، بعض الطلاب يصعدون إلى المبنى المُطل على الشارع الذي تقف فيه قوات الشرطة يهتفون ضد النظام وضد الداخلية بالأخص، يأتيهم الرد سريعًا، كمية غير قليلة من قنابل الغاز أعلى المبنى وحوله ليزداد الطلاب غضبًا وهتافًا فيزداد الغاز كثافة.
يستمر الوضع هكذا بعض الوقت حتى يظهر في الكادر عدد من الجنود لم نعتد وجودهم في مثل هذه الأحداث .. يصرخ قائدهم في الجميع أن ارجعوا حرصًا على سلامتكم ويأمر جنوده بنفس الصرخة بأداء بعض التشكيلات وبدأ الجميع يتساءلون هل سيقتحمون المدينة؟!
اطرد كل هذه التصورات من رأسك فالوضع أكثر هزلية من ذلك بمراحل، تأخذ الأحداث وقعا بطيئًا يدعوا إلى الملل وإلى التفكير فيما يحدث، تكسر إحدى مجموعات الشرطة هذا الملل وتتحرك باتجاه سور المدينة وتسير مبتعدة عن الجموع باتجاه أمن الدولة حتى اختفى الجنود، ربما سيعودوا من حيث أتوا فالأمر لا يستدعي أو ربما لم يأتوا إلى هنا من الأساس من أجل الطلاب!
كان الطرفان يحافظان على استمرار الوضع، غاز وخرطوش يقابلهما حجارة وزجاج، ولكن فجأة تتسارع الأحداث وتدور فوهات السلاح إلى الطلاب المجتمعين خارج المدينة ويُطلق عليهم الغاز والخرطوش بكثافة وعن قرب!
يجري الجميع مبتعدين متسائلين فيما بينهم: ما الذي يحدث؟! قال أحدهم “في حد مات جوة المدينة” لم تحدد طريقة إلقائه للجملة هل يخبر الواقفين أم يسألهم؟!
الكلمة خرجت كالرصاصة التي اخترقت عبد الغني، في تلك اللحظات هو لم يدرك ما قال، ظهر ذلك واضحًا على وجهه عندما سمع الكلمة تخرج من فيه، ما زال لا يصدق وما زال من حوله لا يفهمون شيئًا حتى بدأ يكررها عدة مرات محاولا الاستيعاب أو انتظارًا منه أن يكذبه أحدهم!
ماهي إلا لحظات وتأكد الخبر، عُرف بعدها أن الشهيد هو عبد الغني طالب في كلية الطب، الحق أن الشرطة في تلك الليلة لم تسلب عبد الغني حق الحياة بقدر ما سلبت جموع الطلاب حق الآدمية. لم يكن جديدًا مشهد الدم وصوت الرصاص يخترق الأجساد ويسلب الأرواح، ولكن كان غير مقبول – وقتها – أن يحدث ذلك في مسكنه.
ظل الغضب يملأ لنفوس ولكن بالصمت تحول إلى اكتئاب يبدو واضحًا في تلك الوجوه الشاحبة التي لم تعد تدرك شيئًا مما يحدث، البعض لم يلتزم الصمت وبدأ يتساءل ما الذي يمكن لعبد الغني أن يفعله حتى يُقتل بتلك الطريقة؟ كيف تسللت الشرطة إلى داخل المدينة؟ ومن الذي سمح لهم؟ هل هناك من الأساس من يسمح لهم أو يمنعهم؟ ولكن كل هذا لم يعد مهمٍّا فالواقع أن عبد الغني قُتل لأن هناك من قرر ذلك.
اليوم وبمرور عامين على تلك الواقعة اعتدنا ما هو أكثر، أصبح القتل في البيوت كثيرًا ومستساغًا، الإعدام يُنفذ في البيوت مباشرة، جماعي تارة وفردي تارة أخرى، أصبح الصمت والعجز يرسمان صورًا مرعبة للقادم، فكل ما نستنكره اليوم وبشده قد نعتاده غدًا .. يبدو أننا حقًّا نسلك “طريق مالهش راجع” كما أخبرنا فؤاد نجم على لسان الشيخ إمام ولكن لا يبدو أن النصر أقرب من أيدينا فالواقع أن الهاوية أقرب ما دام القاتل يحكم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست