منذ أن اكتشف الإنسان الكتابة لعب المعلم دورًا رائدًا في تعليم البشرية وتنويرها إلى ما وصلت إليه الآن، وقبل أن يظهر الجدل المجتمعي حول دور المعلم في عصرنا؛ فقد لعب المعلم أدوارًا بارزة في تاريخ البشرية، كما كانت المدارس نواةً لبناء حضاراتٍ عظيمة، والحضارة اليونانية شاهد على ذلك؛ إذ قاد فيها المعلمون نهضةً عظيمةً، لم تختفِ آثارها إلى الآن، فأرسطو وأفلاطون وسقراط وغيرهم –وجميعهم معلمون- صنعوا إمبراطورية عظيمة، وفي الحضارة الإسلامية العظيمة؛ التي أضاءت بنورها العصور الوسطى كان الخلفاء والأمراء يتخيرون لأبنائهم أبرع المعلمين وأذكاهم؛ لتأديبهم، وقصة هارون الرشيد مع معلم ولديه شاهدٌ حيٌّ على ذلك.

عندما رآهما يتسابقان لحمل حذائه فقد «كان  يرقب الموقف دون أن يراه المعلم أو الأميران، فأعجبه ما رأى من ولديه، وأكبر صنيعهما، وفي اليومِ التالي، سألَ الخليفةُ هارونُ الرشيدِ مُعَلِّمَ وَلَدْيهِ: ترى مَنْ أعزُّ النّاسِ؟ أجابَ المعلم: أنتَ يا أميرَ المؤمنين، ومن أعز منك؟ قالَ الرشيدُ: بلْ أعزُّ الناسِ مَنْ يَتَسابقُ ولدا أميرِ المؤمنينَ ووليا عهده لتقديمِ الحذاءِ له وإلباسه إياه»، بمثل هؤلاء المعلمين بُنيت المدارس والجامعات وعُمّرت المكتبات وتعاظمت مكانة العلم، ومرورًا بالحضارات الكثيرة التي مرّت في تاريخ البشرية، وجدنا علاقةً طرديةً بين العلم والازدهار؛ فما من دولة رفعت من مكانة العلم والمعلم، إلا نجحت وازدهرت وصنعت تاريخًا عظيمًا.

وشهد العقدان الأخيران ثورةً عظيمةً في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وما تزال تتسارع بوتيرة هائلة، فلم تترك مجالًا إلا اقتحمتْهُ ولا تفصيلًا من تفاصيل الحياة إلا عبرتْهُ، فأصبح الناس يتوهون في دهاليزها اندهاشًا تارةً، واستسهالًا لأسلوب حياتهم تارةً أخرى، فكان من الطبيعي أن تقتحم التكنولوجيا مجال العلم والتعليم، وباتت أهميتها في التعليم تزداد يومًا بعد يوم، حتى جاءت جائحة كورونا وعجَّلت هذه الأهمية؛ بل جعلت منها حاجة ملِّحة؛ الأمر الذي جعل بعضهم يتساءل عن دور المعلم والمدرسة في المستقبل؛ فهل يختفي دور المعلم ومن ورائه دور المدرسة في ظلِّ التطور التكنولوجي المتسارع؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لابدّ من استعراض سريع لتاريخ التعليم عن بُعد.

جعلت الثورة التكنولوجية الحديثة العالمَ قريةً صغيرةً وقرّبت المسافات، وأصبح الاتصال بين الأشخاص أكثر قربًا وسهولةً؛ جعلهم يتبادلون المعلومات والأخبار، والأحداث بسرعة وسلاسة بعيدًا عن بيروقراطية الأوراق وعمل المؤسسات، ومن الطبيعي أن ينعكسَ ذلك على التعليم فأصبح الوصول إلى المعلومة أكثر يسرًا وسهولة؛ مما أفقد المعلم والمدرسة دورهما الريادي؛ كون المعلم من يقدم المعلومة، ويبسطها لتصل إلى أذهان الطلاب، وكون المدرسة المكان الذي يتلقى به الطلاب جميع أنواع العلوم تأسيسًا لمرحلة ما قبل الجامعة.

وقد بدأت الجامعات بتطبيق التعليم عن بُعد (بالمراسلة) في الجامعات في وقت مبكر جدًا؛ إذ استخدمت هذه الطريقة في أمريكا مع نهاية القرن التاسع عشر ولحقتها أوروبا؛ إذ كان بعض أساتذة الجامعات يرسلون عبر البريد التقليدي المواد التعليميةَ إلى الطلاب غير القادرين على الوصول إلى جامعاتهم، ثم يقوم الطلاب برد المطلوبات عبر البريد مرة أخرى.

وكانت تأخذ هذه العملية الأسابيع والشهور في بعض الأحيان، إلا أننا لا نعرف بالتحديد متى بدأ استخدام التعليم عن بُعد في المدارس والمراحل التي تسبق الدراسة الجامعية، ونعتقد أنها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بانتشار شبكة الإنترنت في بداية التسعينيات من القرن العشرين؛ إذ تغيَّر مفهوم التعليم وأصبح المدرسون يستخدمون هذه الشبكة في تواصلهم مع طلابهم، وقد أصبحت الصفحات التعليمية الإلكترونية ولاحقًا تطبيقات الهواتف الذكية بديلًا قويًّا للحصول على المعلومة.

فقد عمدت كثيرٌ من المؤسسات التعليمية (مدارس وجامعات ومراكز وحكومات) إلى إنشاء منصات تعليمية عن بُعد؛ لتكون أكثر انتشارًا للوصول إلى أكبر عدد من الدارسين في جميع أنحاء العالم؛ لما أظهرته هذه الطريقة في التعليم من قدرة عالية في كثير من المجالات، وخصوصًا مع الإقبال الكبير عليها في ضوء عدم رغبة كثيرين بترك بلادهم ووظائفهم للحصول على درجة علمية، فيما يستطيع الحصول عليها وهو في مكانه.

واعتمدت هذه المؤسسات مجموعة من الإيجابيات التي ظهرت من خلال ممارسة التعليم عن بُعد، أهمها:

اختصار الجهد والوقت: مما لا شكَّ فيه أنَّ التعلم عن بُعد قد اختصر وقتًا كبيرًا كان يضيع إما على الطريق وما قد يواجهه المتعلم والمعلم من ازدحام في الطرقات أحيانًا، أو في تجهيز نفسه للخروج لمكان تعلمه من اختيار الملابس إلى الاستيقاظ في وقت مبكر جدًا؛ مما جعل كثيرًا من المتعلمين؛ وخاصةً طلاب المدارس يتسربون من مدارسهم، أو يتأخرون في الوصول بشكلٍ دائمٍ، كما مكّنت الطلاب من اختيار الوقت الذي يناسبهم في تلقي التعليم عن بُعد، فبدلًا من ارتباطهم بجدول دراسي روتيني ملزم باتباعه، فقد أصبح الطالب يدخل على الإنترنت ويختار البرنامج التعليمي أو المادة العلمية المطلوبة، ثم يؤدي المطلوب منه معتمدًا على نفسه في متابعة واجباته وتحمل المسئولية.

اقتراب أولياء الأمور من أبنائهم: إذ مكن الأهالي من الوقوف على مستوى أبنائهم العلمي بشكل حقيقي؛ ومعرفة نقاط القوة والضعف عندهم، بعد أن كانوا يأخذون هذه المعلومات من المدرسة والمعلم.

تنوع أنظمة التعليم واستراتيجياته: فإننا نجد أن كل مؤسسة تعليمية تستخدم نظامًا خاصًّا، وذلك مع قيام شركات البرمجة بتطوير أنظمة تعليمية حسب الطلب؛ ما جعل استراتيجيات التدريس وتنفيذها متنوعًا ومتفاوتًا بعيدًا عن النمطية.

المساواة في التعلم: ونخص هنا الفئات من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ التي كانت تعاني من صعوبات كثيرة؛ من حيث الوصول إلى المدارس والتعرض للتنمر بالإضافة إلى مشاكل أخرى قد تحول دون الحصول على المعلومة لهذه الفئة.

بالإضافة إلى العديد من الفوائد التي أظهرتها هذه الممارسة التعليمية الجديدة.

إلا أنَّ سلبيات كثيرة ظهرت أثناء ممارسة التعليم عن بُعد، أهمها غياب التواصل الاجتماعي بين الطلاب ومعلميهم، وبين الطلاب أنفسهم؛ فقد كان التواصل الاجتماعي من أهم الممارسات التعليمية غير المباشرة؛ فاختلاط الطالب مع أقرانه ينمي قدراته اللغوية وعلاقاته الاجتماعية بالإضافة إلى رفع روح المنافسة بينهم؛ الأمر الذي يؤثر إيجابًا على تحصيله العلمي، أضف إلى ذلك قدرة المعلم على تحديد مستوى الطالب ومدى فهمه عندما يكون قريبًا منه؛  فيكون له سندًا وداعمًا ومشجعًا، يقول أحد المعلمين: «فقدتُ الرابط الأبوي والأخوي بيني وبين طلابي».

ومن الأمور السلبية التي تواجه التعليم عن بُعد تذمّر بعض أولياء الأمور والأمهات -العاملات خصوصا- من عدم القدرة على متابعة أبنائهم مع وجود كثير من الأعباء الملقاة على عاتقهم بالإضافة إلى كثرة المواد الدراسية، ومحاولة إقناعهم أبناءهم بالاستماع للدرس وتطبيقه بمفردهم دون مساعدة منهم، أضف إلى ذلك حاجة أولياء الأمور إلى التدرب على هذه التطبيقات والبرامج لمساعدة أبنائهم، كما أنَّ كثيرًا من أولياء الأمور ليس لديهم الإلمام الكافي بجميع المواد الدراسية لتوضحيها لأبنائهم.

وتعد قوة انتشار شبكة الإنترنت وضعفها ذات أثر كبير في الحصول على التعليم المتساوي، ففي الوقت الذي يكون الإنترنت قويًّا وسريعًا في المدن والتجمعات السكنية الكبيرة، يكون ضعيفا أو أقل كفاءةً في المناطق الفقيرة، أو النائية والبعيدة عن المدن الكبيرة، وكذلك تعطل الشبكة في كثيرٍ من الأحيان عند حصول ضغط شديد على برنامج أو تطبيق معين.

أخيرًا نستطيع القول أنّ التعليم عن بُعد أبرزَ أهمية المعلم والمدرسة ودورهما في العملية التعليمية التعلمية .

إذ أظهر التفاصيل الدقيقة التي يقوم بها المعلم وتقوم بها المدرسة، ليس فقط في مجال نقل المعلومة أو التعليم؛ وإنما في الدور الجوهري في نقل القيم، واكتشاف المواهب وإبرازها إضافةً إلى تنظيم الوقت وحسن تقسيمه في اليوم الدراسي ابتداءً من الاستيقاظ المبكر ومرورًا بقضاء الأوقات في الفصول الدراسية، وانتهاءً بمشاركة أقرانهم ومعلميهم طموحاتهم وأهدافهم، تقول إحدى الأمهات: «الآن عرفتُ الدور الحقيقي للمعلم، وما يقوم به من مجهود عظيم»، فقد أعادت جائحة كورونا بشكل غير مباشر المكانة الحقيقية للمعلم والمدرسة.

ستبقى مكانة المعلم والمدرسة في بناء المجتمعات محفوظةً ومستمرةً، وربما تصاب بالفتور؛ ولكنها أبدًا لا تختفي، وسيبقى المعلم علمًا يُقتدى به، وستبقى المدرسة منارةً تهدي التائهين في ظلمات التكنولوجيا، سيعود الطلاب إلى مقاعد الدراسة، وستعود حناجر المعلمين بالصدح بين جنبات المدرسة قريبًا إن شاء الله.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد