اختار الروائي المصري الشهير، أشرف العشماوي، الرجوع إلى مصر الملكية، وحتى وصول الرئيس محمد أنور السادات إلى الحكم، لتكون تلك الفترة المهمة زمنًا لأحدث أعماله الروائية «صالة أورفانيللي» الصادرة في العاصمة المصرية القاهرة، مطلع الأسبوع الماضي، كاشفًا في هذا العمل الأدبي شديد الإتقان عن كواليس ما كان يحدث في «صالات المزادات» المخصصة لبيع التحف والمقتنيات القديمة النادرة، وكيف تحكم اليهود في ذلك المجال، والعلاقات المشبوهة مع رجال القصر.
في تلك الرواية، وعن طريقة استخدام «تقنية الأصوات» يقدم لنا الكاتب أشرف العشماوي «3» حكاياتٍ تكشف عن الصراع شديد الإثارة الذي دار بين اليهودي الإيطالي الأصل «أورفانيللي إستيفان ألفيزي»، وصديقه منصور حامد التركي بعد تأسيسهما صالة مزاداتٍ لبيع التحف والمقتنيات حملت اسم «أورفانيللي ومنصور»، ثم الصراع الذي دار بين منصور حامد التركي وابن شريكه في الصالة، والذي حمل اسم «أورفانيللي منصور أورفانيللي».
تتشابك في تلك الرواية الكثير من الخيوط ساردةً رحلة صعود «أورفانيللي» الأب الذي يعمل في أرشيف وزارة التجارة، وصديقه منصور حامد التركي في عالم «المزادات» والتحف، بخبرة الأخير الكبيرة في هذا المجال المعقد، تتطور تجارة الاثنين حتى يرتبطا بعلاقات مع رجال الملك فاروق، بل الملك نفسه الذي زار «صالة أورفانيللي ومنصور» والتقط مع الصديقين صورة جرى بروزتها وتعليقها بالصالة، ثم توريط ليلى حسني زوجة «أورفانيللي» في زيارة لقصر الملك، وما حدث بعدها من فضيحةٍ مدويةٍ للاعتقاد أنها إحدى عشيقات «فاروق»، والقبض عليها في القصر، الخبر الذي لم يتحمله زوجها «أورفانيللي» فمات، ليطوي القارئ الفصل الأول من هذه الرواية.
بحوار داخلي صادم «مونولوج» لـ«منصور حامد التركي»، يبدأ الفصل الثاني من الرواية، هذه المساحة التي كانت في اعتقادي هي الأهم والأجمل والأخطر في الرواية، وبالمناسبة هي الأكبر حجمًا عن الفصلين الأول والثالث من ناحية الأحداث، وكأنها تتناسب مع تلك الشخصية القوية التي سيطرت على أغلب الأحداث، «منصور» الذي كان زميلًا لـ«أورفانيللي» في أرشيف وزارة التجارة، ولكنه يستقيل للتفرغ للصالة، نشأته تتناسب مع شكله الأسطوري الذي بدا عليه في الرواية، فهو ابن «حي الخرنفش»، وحفيد أحد أشهر «فتوات الحسينية» أيام السلطان حسين.
في هذا الفصل، تبدأ الكثير من الأحداث تتوالى؛ يقتل «حامد» زوجة صديق عمره «أورفانيللي» بعد دخولها مصحةً نفسيةً، ثم يدخل في صراعٍ جديدٍ أكثر مع شقيقها يوسف حسني، ذلك الشبح الذي يطارده طوال الرواية، ويريد الانتقام منه، وصاحب «الخطابات الحمراء» التي تثير قلق «حامد» دائمًا.
يشهد هذا الفصل الكثير من الأحداث، الخلافات التي تحدث بين منصور حامد التركي ورجال الملك فاروق، واندلاع ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، والعمليات المشبوهة لـ«حامد» في نهب تحف الملك فاروق بعد أن أصبح عضوًا في لجان الجرد، وما تلا ذلك من الانتقام منه، وفرض الحراسة على أمواله، وفي الوقت ذاته كان الفتى «أورفانيللي منصور أورفانيللي» قد شب عن الطوق، واندمج في الصالة، وتعلم أسرار المهنة، وكان يسير بالتوازي مع خاله يوسف حسني للانتقام من قاتل والدته «ليلى»، وهو ما يحدث فى نهاية الفصل الثاني، حيث ينجح «أورفانيللي» في قتل «منصور» داخل الصالة، وتلقى التهمة على أحد رجال الصالة الذي يُحكم عليه بالإعدام.
بعد الفصل الخاص بالأب «أورفانيللي» وفصل «منصور حامد التركي» نصل إلى الجزء الثالث الخاص بالابن «أورفانيللي منصور أورفانيللي»، الذي كان قد بدأ رحلةً جديدةً في استعادة نصيب والده في الصالة، بل الاستيلاء عليها كلها من الشركاء الذين ظهروا في الفصل الثاني من الرواية، ثم سفره إلى باريس لاستعادة أموال منصور حامد التركي التي نجح في تهريبها بمساعدة صحافي يهودي هو «ألبير مزراحي»، وكذلك لمحاولة معرفة مخبأ التحف والمقتنيات الخاص بـ«منصور»، لنشهد العديد من الأحداث المثيرة تنتهي بقتله مسمومًا على يد «نجاة» حبيبته التي كانت مجرد فخٍ من «عزيز أرقش» أحد شركاء «منصور» في الصالة.
هذه هي الحبكة الأساسية التي بُنيت عليها الرواية؛ صراع بين رجال المال والسلطة، وسلسلة من الجرائم كان الموت قاسمًا مشتركًا فيها، حيث ينتهي كل فصلٍ من الرواية بموت بطلٍ أساسي في هذا العمل الأدبي شديد الإتقان، شخصيات متخيلة ثرية، نسجت حكاياتٍ مثيرةً بالتداخل مع كثيرٍ من الأحداث الحقيقية كخلفيات للأبطال والأحداث، مثل المزاد الخاص بشراء مقتنيات الملك فاروق من تحفٍ وساعاتٍ وفضياتٍ، الذي أُقيم في 12 فبراير (شباط) عام 1954، وكذلك الحركة الشيوعية «حدتو»، الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، والتي ينضم إليها في أحداث الرواية يوسف حسنى، وابن شقيقته «أورفانيللي منصور أورفانيللي» وهو في عمر السابعة عشر، ثم مطاردة «عبد الناصر» لأعضاء هذه الحركة بعد أن صور له البوليس أن «حدتو» ستكون الطوفان الذي سيبتلع «الضباط الأحرار»، فضلًا عن عمليات طرد اليهود من مصر، وتأميم ممتلكاتهم.
في الفصول الثلاثة، ظهرت الشخصيات الأساسية الأب «أورفانيللي»، منصور حامد التركي، أورفانيللي منصور أورفانيللي، مرسومةً بدقةٍ وبخلفياتٍ نفسيةٍ امتدت وأثرت في أبطالها.
فأورفانيللي (الأب) كان شخصًا ضعيفًا وتابعًا لصديقه «منصور التركي» منذ الصغر، كان الأخير يحميه في المدرسة من الأطفال الذين يريدون الاستيلاء على طعامه، أقنعه بالاستمرار في العمل بوزارة التجارة ليوفر الحماية القانونية وإنقاذ الصالة من المخالفات التي ترتكبها وسجلها الضريبي المشبوه، في حين كان «منصور» شخصًا قويًّا، عرف أسرار المهنة منذ الصغر، متسلقًا، الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولكن تطارده طوال الرواية صفة «القواد» بسبب تصرفات والدته المشبوهة مع الرجال، يرتبط في أحداث الرواية بإحدى فتيات الليل «روحية»، تعوضه عن المتعة التي يفتقدها مع زوجته بهيرة الشوادفي، وفي الوقت نفسه يرى في «روحية» صورةً لوالدته.
أما الابن «أورفانيللي منصور أورفانيللي» فقد بدا أنه كان تائهًا بين «أبيه وصديقه»، حتى الاسم اختاره له «منصور» الذي تمنى أن يكون والده، لكن الانتقام يوسع الهوة بين الاثنين، فيقتل «أورفانيللي الابن» منصور حامد التركي في نهاية الفصل الثاني.
تصلح رواية «صالة أورفانيللي» عملًا تليفزيونيًّا أو سينمائيًّا بامتياز؛ فالقصة جرى نسجها بذكاءٍ شديدٍ، شخصيات هذا العمل شديدة الثراء ومتنوعة تتناسب مع الصراع الذي يدور طوال الأحداث، حتى الحوار كان متقنًا كاشفًا عن فلسفة الرواية؛ الكل في «المزاد» الذي يعده الكاتب حياةً موازيةً، واستفاد بالطبع «العشماوي» بخبرته القانونية الطويلة في نسج هذا العمل، وبالمناسبة فقد بيعت كل أعماله لتحويلها أعمالًا دراميةً من خلال ناشره «الدار المصرية اللبنانية»، ولكن التنفيذ لم يبدأ بعد.
رواية «صالة أورفانيللي» رواية تستحق القراءة عن جدارةٍ، وهي صادرة عن «الدار المصرية اللبنانية»، تقع في «423» صفحةً، بغلافٍ مميزٍ للفنان كريم آدم، يترك للقارئ الخيال ليبحث عنه في أحداث الرواية، واستغرقت كتابتها 3 سنواتٍ.
قبل «صالة أورفانيللي» أصدر الروائي المعروف أشرف العشماوي روايات مهمة، تتصدر دائمًا مقدمات قوائم الأعلى مبيعًا في مصر، ومنها : «زمن الضباع»، «تويا»، «المرشد»، «البارمان»، «تذكرة وحيدة للقاهرة»، «كلاب الراعي»، «سيدة الزمالك»، «بيت القبطية»، إلى جانب كتاب «سرقات مشروعة».
ترشحت روايته «تويا» ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، بينما حصل على عدة جوائز مثل: جائزة أفضل رواية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب من الهيئة العامة للكتاب 2014 عن رواية «البارمان»، وحصلت روايته «كلاب الراعي» على جائزة أفضل رواية تاريخية من ملتقى مملكة البحرين الثقافية عام 2019، وأخيرًا دخلت روايته «بيت القبطية» القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الثقافية، فرع كبار الأدباء، والتي أُعلنت الأحد الماضي.
وبعيدًا عن الأدب، شغل «العشماوي» عدة مناصب رفيعة في السلك القضائي المصري، وصولًا إلى منصب مساعد وزير العدالة الانتقالية، قبل أن يستقيل منه، وكان جده محمد العشماوى وزيرًا للمعارف العمومية (التربية والتعليم حاليًا في مصر)، ومديرًا لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، ووالده الدكتور عبد الوهاب العشماوي، كان سفيرًا بـ«الخارجية»، وأمينًا عامًا مساعدًا لجامعة الدول العربية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست