أو بمعنى آخر: ما الذي تبقى عليه كي ينزعه؟!

هذا هو حال السيسي في مصر وبشار في سوريا، نظامان آيلان للسقوط، كلاهما حمل مقومات فشله منذ البداية، ورغم ما يعتريهما من خيبة وعار قرر بوتين دعمهما، ولا أدري ما الذي دفع هذا الرجل اليتيم لهذه المخاطرة غير المحسوبة، وأعني غير المحسوبة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فمنذ متى والروسي يدرك عواقب ما يفعل؟! ثور هائج لا يوقفه شيء وكلما طغى زاد طغيانه أكثر، لكنها شهوة النفوذ والسيطرة التي تتسابق موسكو وواشنطن على الفوز بهما، كلاهما يسعى لحصد النصيب الأكبر من الكعكة بجانب سباق التسليح الأبدي بينهما.

لكن ثمة واقع جديد جاءت به ثورات الربيع العربي وما تلتها من أحداث وتقلبات، فبرز لاعبون جدد في مربع الصراع، وهذا تطور طبيعي ومناسب جدًا نستطيع أن نفهمه في سياق التحول الدراماتيكي كردة فعل على القمع والظلم، فحين قرر العالم أن يكون البقاء للأقوى والأكثر دموية وإجرامًا ووحشية، دخل لاعبون جُدد كتنظيم الدولة وغيرها من الحركات التي تسمي نفسها جهادية وتحمل راية إسلامية، قلبوا الطاولة على الغرب فأحدثوا ارتباكًا في موازين القوى، صحيح أنني لا أؤمن بهم لكن علينا أن نعترف أنهم قادرون على إحداث الفارق ونقل الحرب خارج سوريا.

فمنذ زمن ليس ببعيد كانت واشنطن وموسكو تتعاملان مع مشروعهما للفوضى كما يتعامل الطباخ مع طبخته، يتركها تغلي على نيران هادئة ثم يتدخل بملعقته لتقليب المكونات فإن احترقت فهي في بيت الغير ولا يضيرنا شيء، وان استوت فنحن أول من يلتهمها بدعوى حفظ الأمن ومحاربة الارهاب دون أن تتكلف الإدارة الأمريكية أي ثمن، تصنع واشنطن الأزمات وتستثمر ردود الفعل تجاهها، لكن اليوم لم تعد الطبخة متاحة لا للأمريكان ولا للروس، لم يعد ثمة زعيم واحد على مسرح الأحداث، هناك ثمن كبير لابد أن يدفعه كل منهما.

اليوم كما يُقال أن بوتين عالق بين طائرتين الأولى أُسقطت بفعل فاعل على أرض مصرية والثانية أسقطت في منطقة حدودية على أرض تركيا ولا تملك روسيا أية خيارات للرد عسكريًا، وسياسيًا ليس هناك تعاون، فليس أمام بوتين سوى العقوبة الاقتصادية فهناك حركة تجارة بين أنقرة وموسكو تُقدَر بواحد وثلاثين مليار دولار، ولا أظن أن روسيا لديها القدرة على التصعيد في هذا الاتجاه، صحيح أن نصف ما تحتاجه تركيا من الغاز يأتيها من روسيا، لكن هناك أيضًا احتياجات تُقَدَّر بقيمة 25 مليار دولار تستوردها روسيا من تركيا.

تورطت روسيا في سوريا بنفس الطريقة التي تورطت بها في أفغانستان، فالاتحاد السوفييتي في أواخر السبعينات أرسل خبراء روس إلى افغانستان وفي أوائل الثمانينات أصبح لديه آلاف الجنود هناك، الأمر الذي أدى إلى انخراطهم في حرب ضروس ضد الأفغان وخرجوا منها بهزيمة قضت على أسطورة الجمهورية الاشتراكية.

الأمر نفسه حدث اليوم في سوريا فليس هناك إحصائيات بعدد الخبراء والقوات والمقاتلات الروسية الموجودة على أرض سوريا، فضلًا عن السفن التي تقبع بكثافة في الموانئ السورية، وكلنا يفهم هذا الدعم اللا محدود الذي تقدمه موسكو مباشرة إلى دمشق فروسيا ليس لها أي قاعدة بحرية في البحر المتوسط سوى التي تقبع هناك في ميناء طرطوس والتي تمثل التواجد الروسي الوحيد في المنطقة والذي يسعى بوتين للحفاظ عليه ومده مهما كان الثمن.

إذًا بوتين يدافع عن نفوذه ويُعضد تواجده في المنطقة بدعمه المباشر للأسد لأن سقوطه يعني خصمًا من رصيد روسيا في المنطقة، على جانب آخر الإدارة الأمريكية لم تحسم أمرها من الأزمة السورية فقد صرح أوباما “بأن بشار الأسد عليه أن يرحل عن سُدة الحُكم في سوريا” لكن لم يفسر لنا كيف سيرحل ولم يفعل شيئًا على الأرض يعزز تصريحاته ويثبت صدق نيته في ذلك، وعلى النقيض بوتين الذي دائمًا ما يستعيض عن الكلام بالأفعال ما زال يقدم دعمه الكامل في سوريا ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وهذا هو التباين الواضح في التعامل مع الملف السوري بين موسكو وواشنطن التي أصبحت تتردد كثيرًا.

نعم حدد بوتين أهدافه بجانب الأسد والسيسي لكنه سيبقى يتيمًا، ولا أدري كم من الجنود الروس الذي يجب أن يضحي بهم في سبيل الإبقاء على نظام الأسد، وكم مليار دولار سينفق كي يحمي قاعدته البحرية في المتوسط، وكم طائرة سيخسر كي يوسع نطاق سيطرته ويبسط نفوذه ومن ثَمَّ يحافظ على تواجده في المنطقة.

نستطيع الآن أن نفتح قوسًا ونقول أننا أمام حرب دموية يخوضها بوتين بجانب الأسد كي يحظى بنصيب أكبر من الكعكة، لكن كعكة كهذه مسمومة ولن تأكلها روسيا سوى بالدم والعرق والدموع، فمن ظن ممن يلاقي الحروب بألا يُصاب فقد ظن عجزًا.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد