ناقشنا في مقالنا السابق: التغير المناخي.. البعبع الذي يهدد عالمنا العربي، خطورة قضية التغير المناخي، وعواقبها الكارثية على العالم العربي في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كافة، إن لم يقف الجميع وقفة قوية ضد هذه الظاهرة.
وناقشنا أيضًا أهمية وضع سياسات استراتيجية واضحة، وصادقة للحد من هذه الظاهرة في العالم العربي الذي يعد من أكثر المناطق في العالم تأثرًا بالتغير المناخي.
وأشرنا إلى تجارب تستحق الإشادة لدول كالسعودية والإمارات والمغرب، والتي وضعت في خططها الإستراتيجية سياسات طموحة للحد من تفاقم ظاهرة التغير المناخي بتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، والاستعاضة عنه بالوقود المنتج من مصادر الطاقة المتجددة، كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح مع التأكيد على عدم كفاية ذلك، وضرورة دخول كافة الدول العربية في هذا السعي حتى تتجنب المنطقة تدهور أمنها المائي والغذائي، إن لم تتدارك تقصيرها في هذا الجانب.
وسيكون هذا المقال مواصلة في ذات الموضوع مع الانتقال إلى جزئية في غاية الأهمية، وهي التكيف مع التغير المناخي في العالم العربي.
ما هو التكيف مع التغير المناخي
ينقسم الجزء الأكبر من سياسات تغيّر المناخ بشكل واسع إلى فئتين: سياسات التخفيف من آثار تغير المناخ وسياسات التكيّف مع تغيّر المناخ. تسعى سياسات التخفيف إلى إبطاء تغير المناخ من خلال خفض انبعاثات الكربون. في حين تمّ تصميم سياسات التكيف، للتعامل مع الآثار التي يسببها تغيّر المناخ، وسيستمرّ في تسبيبها في العقود المقبلة.
تعرّف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، التكيف، على أنه: عملية التكيف مع المناخ الفعلي أو المتوقع وتأثيره. وهكذا، يسعى التكيف إلى تخفيف أو تجنب الضرر أو استغلال الفرص النافعة. وباختصار، ينبغي على البلدان دمج المخاطر والفرص المتعلقة بتغير المناخ في التخطيط الوطني، وتلبية احتياجات الفئات المستضعفة النساء والسكان الأصليين الأكثر تضررًا من تغير المناخ.
إذن فعلى الدول العربية، وهي ما يهمنا في هذا المقال، أن تسعى بكافة إمكاناتها إلى أن تضع خططً وسياسات واضحة وفعالة لتقليل آثار التغير المناخي على السكان والأرض حتى يتم تخفيف الأضرار الناجمة من التغير المناخي بقدر الإمكان في ذات الأثناء التي تعمل فيها سياسات الحد من التغير المناخي ذاته.
كثير من المختصين في المناخ يدعون العالم إلى التركيز في المشاريع الرامية إلى التكيف مع التغير المناخي، حيث يرى هؤلاء الخبراء أن العالم، وإن نجح في تقليل انبعاثات الكربون، وبالتالي تقليل درجة حرارة الكوكب، فإن التغير المناخي سيستمر؛ مما يجعل التركيز مع التكيف مع هذا التغير من الضرورة بمكان.
كيف يتم التكيف مع التغير المناخي
كما ذكرنا في مقالنا السابق، فإن التغير المناخي الناتج من زيادة انبعاث الغازات الدفيئة الناتجة بدورها من استعمال الوقود الأحفوري يؤدي إلى زيادة في درجة حرارة كوكب الأرض، فيما يعرف بالاحترار العالمي، وهذا الاحترار يؤدي إلى تغير كبير في مناخات المناطق في العالم، والتي سيكون بعضها أكثر عرضة من البعض الآخر، إما لجغرافيتها أو لضعف إمكاناتها في مواجهة و مكافحة هذا التغير.. وعالمنا العربي هو المثال الأبرز لهذه المناطق الأكثر عرضة، فذوبان الجليد في القطبين سيؤدي إلى ارتفاع منسوب المحيطات؛ مما يهدد بغرق المدن الساحلية العربية، وتغير التركيبة المناخية سيؤدي إلى حالات جفاف وتصحر كبيرة، وإلى تقليل كميات المطر السنوية؛ مما سيكون ذا تأثير مأساوي على الزراعة في العالم العربي، وسيؤدي مباشرة إلى تهديد للأمن الغذائي العربي، وأزمات كالبطالة والنزوح والهجرة القسرية نحو المدن والخارج، فالزراعة توظف ما يقارب 35% من سكان العالم العربي.
بعض التأثيرات للتغير المناخي بدأت تظهر فعليًا، فالمزارعون في المغرب ومصر مثلًا يعانون من نقص محصول القمح بنسبة 30%.
وبعض الدول العربية تعاني من نقص كبير في مواردها المائية؛ مما يجعل الداعي للتكيف مع هذا التغير ملحًا بدرجة كبيرة، ويمكن أن يتم ذلك بعدد من الصور من بينها:
- التركيز على التقنيات الزراعية الواعية بالتغير المناخي والتي تستهلك كميات مياه أقل وحماية التربة.
- استخدام التقنيات الوراثية في الزراعة التي تنتج نباتات تحصد مبكرًا قبل مواسم الفيضانات والأعاصير.
- دعم المشاريع الرامية لتعزيز الأمن المائي والغذائي.
- دعم المشاريع الموجهة لاستيعاب المتضررين من تأثير التغير المناخي.
ولكن الناظر لهذه الآليات المذكورة أعلاه بصورة مبسطة يجد أنها كلها مشاريع تحتاج إلى تمويل، وهو ما يشكل معضلة التكيف مع التغير المناخي، فهو عملية تحتاج إلى تضافر الجهود في كل دولة داخليًا باستقطاب الدعم من القطاع الخاص والحكومي وخارجيًا باستقطاب الدعم من هيئات المناخ في الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات العالمية المهتمة بالمناخ، كالبنك الدولي، ومنظمة الفاو لجلب الدعم الكافي لتمويل مشاريع التكيف المناخي، والتي تمثل جناحي طائر مع سياسات مكافحة التغير المناخي لوصول الأمة العربية إلى بر الأمان من خطر التغير المناخي المحدق.
التمويل المناخي والعالم العربي
الباحث في قضية التمويل و التكيف مع التغير المناخي في العالم العربي سيجد تجارب مشرقة التنويه إليها واجب لتشجيع البادئين على المواصلة و المحجمين على البدء.
الإمارات العربية المتحدة تواصل حضورها كنموذج مشرق في كل ما يتعلق بقضية التغير المناخي فمع وضعها لمكافحة التغير المناخي في استراتيجياتها للعام 2021 فهي أيضًا تظهر هنا في قضية التكيف مع التغير المناخي، فهي قد استضافت مؤتمر التكيف مع التغير المناخي 2017؛ مما يظهر اهتمامها الكبير بهذه القضية حيث بحث المؤتمر العالمي سبل وآليات التمويل والتكيف.
وكذلك أطلقت الأردن في العام 2016 مشروعها للتكيف مع التغير المناخي صاحبه خطة لتمويل مشاريع كرفع قدرات المجتمعات الفقيرة لمواجهة التغير المناخي وتمويل مشاريع مبتكرة في قطاعي الماء والزراعة.
فلسطين تظهر أيضًا بخطط طموحة للتكيف وتمويل مشاريع رامية لتقليل خطر التغير المناخي على قطاعات الزراعة والمياه والسكان بدأت منذ العام 2015.
المغرب وضعت استراتيجية لتمويل مشاريع للتكيف مع التغير المناخي في 2017 تهدف الى تعزيز الأمن المائي والغذائي وتقليل آثار الفيضانات وكذلك تشجير أكثر من مليون هكتار كل ذلك تكيفًا مع التغير المناخي والمغرب من أكثر الدول العربية تأثرًا به.
الأردن من الدول العربية النشطة في المجال المناخي بشقيه مكافحة التغير المناخي والتكيف والتمويل المناخي فهي لديه مشروع منذ العام 2010 يحتاج إلى تفعيل وتنفيذ بكل حماس ومسؤولية.
خاتمة
لكي يحلق الطائر العربي بنجاح ويرفرف بأمان فهو بحاجة إلى جناحين قويين هما مكافحة التغير المناخي والتكيف والتمويل المناخي، وذلك يحتاج إلى تعزيز الجهود الحالية للدول الفاعلة، ودخول الدول غير الفاعلة بقوة حتى يحقق الهدف السامي، وهو السلامة من أخطار وكوارث التغير المناخي لنحظى بعالم عربي قوي آمن ومتنام.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست