لا يخفى على الغيورين من أبناء العربيةِ وحاملي لواء الضاد ما آلت إليه العربية من هوان أصحابها، ونوم حراسها – إن لم يك سباتهم – ما جعل وصول الأعداء إليها أمرًا يسيرًا لا يحتاج لكثير من إعمال الفكر ولا لقليلٍ من الجهد، لا سيما وأنَّ من يَهُن يسهل الهوان عليه ومن يتخلف عن الركب تأكلهُ الذئاب (إنما تأكل الذئبُ من الغنم القاصية).
اللغة العربية بين الجهل والتجهيل
تعرضت الأمة العربية والإسلامية للاحتلال الغربي ولم يك احتلالًا عسكريًّا فحسب بل كان احتلالًا فكريًا وثقافيًا بالدرجة الأولى يهدف أول ما يهدف إلى الاستنساخ والتغريب؛ أعني بهذين المصطلحين: استنساخ الأفكار، والأيديولوجياتIdeologies والمبادئ، واللغة دون العلوم وزرعها في عقل وقلب العربيّ المسلم، بحيث لا تفارقه ولا يفارقها من المحيط إلى الخليج، ومن الشرق إلى الغرب، ما أدى إلى تخلف الوطن العربي والإسلامي؛ لغة، وشعبًا، وحضارة، ليخلَّف الاحتلالُ آثارًا لم نزل نعاني بعد من ويلاتها.
يقول مصطفى صادق الرافعي: “ما ذلَّت لغة شعب إلا ذَلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذَهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمِر لغته فرضًا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عمل واحد؛ أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبدًا، وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تَبَع”[1].
فقد كان التعليم في البلاد العربية باللغات الأجنبية؛ الإنجليزية في (مصر، والسودان، والعراق)، والفرنسية في (سورية، وتونس، والجزائر، والمغرب) وعمد الاحتلالُ إلى تشجيع لغته، واللغات المحلية على حساب العربية، والدعوة للكتابة بالحروف اللاتينية وإرسال البعثات تلو البعاث إلى بلاده لتلقي (استنساخ) الفكر، واللغة، وربما الدين.
يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر – بمناسبة مرور مائة عام على احتلالها -:
“يجب أن نُزيل القرآن العربي من وجودهم… ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم؛ حتى ننتصر عليهم”.[2]
ورغم كل تلك المكائد والحيل التي عمد إليها الاحتلال وغيره من أذنابه الذين تربوا في حظيرته، وشربوا من سمِّه؛ إلا أن اللغة العربية ظلت صامدة – على استحياء – تأبى الموت وهي منه أقرب. يقول الفرنسي جاك بيرك: “إن أقوى القُوى التي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب هي اللغة العربية، بل اللغة العربية الكلاسيكية الفصحى بالذات، فهي التي حالت دون ذوبان المغرب في فرنسا، إن الكلاسيكية العربية هي التي بلورت الأصالة الجزائرية، وقد كانت هذه الكلاسيكية العربية عاملًا قويًّا في بقاء الشعوب العربية”.[3]
العربية والعولمة
لا أخفيكم سرًا فقد نشأتُ في مجتمعٍ ريفي قلما يهتم – أصلًا – باللغة العربية فضلا عن غيرها من اللغات والألسن، وما أن سافرتُ للقاهرة حتى وجدتُ عناوين المحلات، والشركات، والمصالح مكتوبة بالإنجليزية دون العربية فانبهرتُ – بدايةَ – لا سيما وأنا طالب في كلية اللغات والترجمة – الألسن – حيئئذ؛ أدرس الإنجليزية وأحتفي بها في كل محفل. لكن ذلكم الانبهار- الكاذب – ما أوشك حتى ارتحل عني سريعًا لأنني أدركتُ حينها أن الخطر عظيم، والأمر جلل. وتساءلتُ كيف للحكومات أن لا تسن قوانينَ تحد من انتشار هذه الفوضى التي تؤثر – لا شك – على الأجيال القادمة. لكن كيف ورؤساء المصالح الحكومية والمناصب الرفيعة بل ورؤساء البلاد العربية يفاخرون باللغات الأجنبية، ويتشدقون بها ليل نهار ليقولوا للعامة نحن المثقفون لا أنتم.
ماذا بعد
وماذا بعدُ غير العمل على تذليل الصعاب التي تعترض من يتعلم العربية، بدءًا بالتعلم الأساسيِّ وانتهاءً بالجامعة وما بعدها من محاضن العلم، بأسلوبٍ يناسب العصر ويواكبه وتعريب الكلمات والمصطلحات التي لم تُعرَّب بعد، ليشتمل ذلك على تعريب المناهج التعليمية في كليات الطب، والصيدلة، والهندسة، والعلوم، وجميع الكليات العملية والنظرية؛ لأن اللغة هي أساس التقدم، وركيزة البناء، وعماد الأمر كله. وما أظن أن تعجز لغتنا العربية أن تجد مرادفًا لغويًّا أو وصفًا دقيقًا للعلوم والمفردات الحديثة وهي اللغة التي اتسعت لألفاظ رب العالمين. وها هو حافظ إبراهيم – رحمه الله – يَردُّ على لسان العربية:
فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ
أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَاءلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي
وكذا يجب على الإعلاميين، وأصحاب الأقلام، والمترجمين، والمُعربين أن يُحسنوا استخدام العربية استخدامًا يُرغِّب فيها ولا ينفِّرُ منها؛ وإنِّي لأعجبُ من أمةٍ تسخرُ من لغتها على شاشات التلفاز، وفي الشوارع والأزِّقة.
أذكرُ – وتذكرون جميعًا – أنهم يجيئونك باللغة العربية على ألسنة المتشدقين، والمتكلِّفين، والمتشددين، وحاملي البنادق، والذخيرة؛ على وجوههم كآبة الليل، وفوق ألسنتهم جبال الألب، وغضب الرب ويْكأنهم (الإعلاميين وصانعي الأفلام) يقولون لنا هؤلاء هم من يتحدثون العربية! ويا ليتها ثم يا ليتها كانت عربية فصيحة سهلة تأسرك بمخارج حروفها، وبلاغة أسلوبها، وعذوبة تراكيبها. إلا أنها جامدة كقلوبهم لا حياة فيها، ولست أعلمُ إلا أن العربية كلها حياة وإلا ما قاومت كل محاولات الطمس والانزواء.
أما علم أصحابنا – أعداءنا – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – كان يرى أن الضَّعف في اللغة العربية شرٌّ من الضَّعف في التدريبات العسكرية، سمع أحدَهم يقول: أَسَبْتُ، يريد أَسَأْتُ، فبادرَه عمر مُقوِّمًا: “سوءُ اللحْن أسوأ من سوء الرَّمي”. وكان رحمه الله يقول: “تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها من دينِكم، وتعلَّموا الفرائضَ؛ فإنها من دينكم”.[4]
وللمقال تتمة بإذن الرحمن القائل جل في علاه: “إنَّا أنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ”.[5]
________________________________________________
[1] الرافعي، مصطفى صادق، وحي القلم (ج2، ص23)، دار المعارف، ط2، 1982م.
[2] العالم، جلال، قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام، أبيدوا أهله (ص 50).
[3] الجندي، أنور، الفصحى لغة القرآن (ص304).
[4] مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب ج1 (ص9).
[5] يوسف(2(.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
اللغة العربية