غريب للغاية أن ينسج الإنسان أحلاما بنفاق كبير مع ذاته العجيبة، من المدهش أن يحلم بالقصور والعذارى وهو لا يملك قوت يومه، ولولا العائلة التي يشرف عليها الأب لهلك هذا الفرد جوعا وبردا، إنها من مفارقات الحب المنافق لذات لطالما توهمت أحلاما دون جدوى، وهذه الأوهام تغذيها وسائط وأساطير كثيرة اهتمت بها إلى أن بلغت مرتبة الموجه الوحيد للإنسان، فراح الضعف ينخر الروح إلى درجة الثمالة دون وعي ودون رقابة.
يولد الإنسان عاريا، ويعود في ثوبه الأبيض إلى الأرض التي تحتضن جسمه، أما الروح فلا يدري أحد معاني ومسارات احتضانها أبدا، نتيه كبشر بين الارتداد إلى الأرض والتخلص منها أملا منا في بلوغ مقامات التميّز المزيّف، وبدل أن نحلم بالنجاة، نحن نحلم بالنجاح.
ما أغرب طفلا ولد على صخرة التقاليد وهو يحلم بالانعتاق منها بلا أية فرصة حقيقية، يطارد البقاء بأنامل ضعيفة للغاية، كمن يواجه دبابة بحجر، كمن يحاول ردع صاروخ سكود بسهم ورقي، كمن يحاول الحياة وهو لا يدرك معنى الموت، هي أسطورة النظام في متاهة العبث، فلا رجاء للمتوهم سوى بلوغ الخلاص بالعودة إلى الواقع لا تغييره.
في سلة واحدة نولد، وفي جيوب كثيرة نعود، لا يدري أيّ منا مصيره ولا مكانته، لكننا نحاول، والمحاولة هي أصل الحياة العميق للغاية، لنا دائما فرصة المحاولة، وفرصة التشبث بما نود البقاء من أجله، مع قليل من الحب والخوف معا.
كيف نسير بين اللهب؟ هي عبارة من يعي أنّ الحياة كالحية، ليّن ملمسها وخطير سمّها، ففي فضاء جاوز الحقيقة بكثير، على الناس أن تدرك بأنّ كلّ ما يمكن تقديمه للذات، هو من صلب الاعتقادات لا من الروح ذاتها. نحن ندرك بأنّ للإنسان مكانات كثيرة وفرصا عديدة من أجل تخريج لغة الخطاب الخاص به، يطارد بقاءه بلا جدوى أو ضرورة، فلو هناك فرصة فعلية للبقاء لكان قد بقي الأنبياء أو العظماء، لا هذا من الوهم لا غير. هي متاع الجيوب المثقوبة في رهط الغرق، وهي سبيل العذاب أمام مآل لا سبيل لتجاوزه أو مراوغته، لأنّ الإنسان هو الأوضح في مسار الفناء. كم من لغة يجب أن نختار لنبقى؟ أبدا! لن نبقى.. رغم بقاء الحرف نحن ذاهبون، ورغم بقاء الحجر نحن ماضون إلى النهاية بأمل مشروح ومفتوح على كافة الاحتمالات، فأين المفر؟
قد يعتقد الفرد البشري بأنّ نجاحه في تحقيق بعض الأوهام على الأرض، بعض الدولارات في البنك، وسيارة قابلة للعطب لا محالة، أو منزل ينهار عند أوّل هزة أرضية، لكنه لا يفكّر بشكل صارم في هذا سوى من أجل تجاهل أعمدة التفكير التي تدخل الحزن، وهي دائرة يخشاها دائما.
لا يمكن أن نترك كافة الأبواب مغلقة يا إلهي، لأن الانسان يخشى الأماكن المظلمة، ولطالما أبدع في حربه ضد الظلام، فاخترع النار واستعمل الشموع، ثم استغل الكهرباء فأنار البيوت والمدن، إنّ البشرية تعلّمت كيف تكون منافقة في وجودها، وكيف تؤمن بنفاقها هذا مع تقدّم الزمن وتلوّن التيارات الفكرية التي تنتجها، فهناك على الدوام أمل ما ضمن إيمان الأرواح.
قدر الفرد في بلوغ لهجاته وتبليغ رسائله، وهذا بالفعل ما يمكن للإنسان أن يستغلّه من أجل فهم ما يدور من حوله، إنّ علاقة الإنسان بالحياة هي علاقة مرتبكة وملتبسة على الجميع، كون أنّ العالم الذي نسكنه هو عالم مليء بالألغام، ولطالما عانت البشرية من ويلات الإقدام على مغامرات غير محسوبة، فهي تؤمن بالغزو والجبروت، على الرغم من أنّ أصولها لا تنهي هذه السلبيات سوى على مستوى الداخل الإنساني فقط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست