آن الأوان أكثر من أي زمن مضى لنفكر وبجدية في صحتنا الاقتصادية وواجب حمايتها، تكتسي الصحة الاقتصادية نفس أهمية صحتنا الذاتية، فلنحاول قدر الإمكان أن نحافظ عليها ونحميها في زمن كورونا علنا نخرج من الأزمة بأخف الأضرار.

بينما يجلس معظم البشر في منازلهم في عزلة ذاتية، يحتمون من وباء ينتشر بلا هوادة ويحصد آلاف الأرواح دون كلل أو ملل، يجدر بنا التفكير في الصحة الاقتصادية لعالمنا في القادم من الأيام، في زمن ما بعد كورونا أو ربما في ظل التعايش مع كورونا. إن تعبئة البشرية لمكافحة فيروس تاجي غير مرئي أمر بالغ الأهمية بالتأكيد، ذلك أن إدارة السلوك الفردي مكنت من تباطؤ انتشار هذا الوباء المرعب والحد من آثاره المدمرة على الأرواح البشرية.

غير أن ذلك ومع الأسف رافقه إلغاء أحداث كبيرة بما في ذلك الاجتماعات الموسعة، والمؤتمرات، والمنتديات، والتظاهرات الثقافية، والعلمية، والفنية وغيرها كثير، فضلًا عن إجبارية العمل من المنازل والحفاظ على التباعد الاجتماعي، مما تسبب في تغيير نظام التواصل بين الناس عمومًا وبين الأقرباء والأصدقاء خاصة، بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ولحد اهتزت معه كل معايير العلاقات الإنسانية والتقارب بين أفراد المجتمع الواحد، ليصبح تبادل الزيارات ممنوعا وكل أشكال التواصل المباشر محظورًا، عدا ما كان عبر شاشات الهواتف الذكية التي سيطرت على حياة البشر فأصبحت جزءًا من الهواء الذي يتنفسونه.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وهو الأدهى والأمر، أدى إغلاق الشركات والمصانع والمطاعم والمقاهي ومراكز التسوق والمحلات التجارية وصالات الرياضة ودور السينما ووكالات الأسفار إلى صعوبات اقتصادية غير مسبوقة، ترقى إلى أزمة اقتصادية خانقة بكل تجلياتها وانعكاساتها الكارثية على العالم بأسره.

إلى غاية هذه اللحظة، مات آلاف الأشخاص عبر العالم، وهو أمر محزن ومؤلم خاصةً لعائلاتهم وأحبائهم. ومع ذلك إذا بقينا على مسار وقف الأنشطة الاقتصادية والتجارية، فسوف يموت مئات الآلاف من الناس من العواقب الاقتصادية الوخيمة التي تنتظرهم لا محالة في ظل أزمة ما بعد كورونا، على إثر شلل الأنشطة الاقتصادية الحيوية وتوقف الإنتاج وتسريح العمال وتعريض شريحة واسعة من المجتمع للبطالة والفقر والتهميش والتمييز الطبقي أو العنصري، والتشرّد وعدم الاستقرار، خاصة في صفوف المهاجرين واللاجئين الذين يوجدون في وضعية هشة مسبقًا؛ مما سيزيد الطين بلة والوضع تفاقمًا وتأزمًا.

وعندما يرتفع معدل البطالة يتزايد عدد النوبات القلبية وحالات الانتحار والانحراف والإجرام إلى حد القتل، وتتبدل أنماط السلوك الاجتماعي، وتتغيّر الظروف الحياتية، وتزداد الضغوط المعيشية، لتؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى ظهور اختلالات نفسية، وحصول ما يسمى بالاكتئاب الجماعي، نتيجة إحساس المواطن بالاغتراب والإحباط اللذين ولّدهما عجزه عن مجاراة التطورات الحاصلة في المجتمع، وخاصة منها الاقتصادية، حيث تنشأ هوة معيشية كبيرة بين متطلبات الاستهلاك ومداخيل السكان ومعها مشاكل مالية لا حد لها.

ومن شأن ارتفاع معدلات البطالة عبر العالم مع ما يترتب على ذلك من اختلالات اجتماعية خطيرة أن يؤدي إلى آلاف حالات الوفاة، التي ستتجاوز على الأغلب عدد الوفيات الناجمة عن الفيروس التاجي المتسبب في الوباء. ويوضح هذا السيناريو أننا بحاجة إلى إطلاق النشاط الاقتصادي بشكل حذر مع التزام تدابير الوقاية الضرورية والحفاظ على ممارسات التباعد الاجتماعي، خاصة بالنسبة لكبار السن والأشخاص الذين يعانون من ظروف صحية تزيد من خطر إصابتهم بالمرض.

وفي هذا السياق، يحتاج سكان العالم قاطبة إلى تعلم قبول العيش مع خطر هذا الفيروس للحفاظ على جودة الحياة. حيث بإمكاننا تغيير سلوكنا الفردي، وممارسة النظافة الجيدة، والتعاطف والتآزر مع المصابين، وتعبئة الموارد المالية والبشرية لمكافحة الوباء والقيام بكل ذلك دون إلغاء أعمالنا وأنشطتنا وتحويل شخصياتنا إلى الانطواء والانزواء والقطيعة الاجتماعية وإيقاف عجلة الإنتاج وشلل المعاملات والاستهلاك.

ومن ثم أضحى التعايش مع وباء (كوفيد-19) واقعًا محتومًا ورهانًا لا مفر منه، ويتوقف الوضع في هذه الفترة على مدى استجابة الشعوب للتدابير الاحترازية، فكلما احترم الناس التباعد الجسدي والتزموا بسبل الوقاية، اقترب العالم أكثر من تقليص منافذ العدوى وربما سدها. غير أن هذا التعايش سينجح بلا شك في الدول المتقدمة، في حين سيواجه عراقيل في البلدان التي تفتقد معايير الوقاية وتعاني نقص المواد الطبية. وهو ما يستدعي تحقيق التكافل الإنساني بين الدول باعتبار أن التعاون كفيل بضمان عدم انتقال عدوى الوباء.

العالم مطالب الآن أن ينظر إلى الفيروس باعتباره أمرًا وجب التعايش معه، المهم هو تحقيق التوازن بين دوران عجلة الحياة الطبيعية وبين استمرار الإجراءات الاحترازية. وهو ما يعني تحقيق التوازن بين صحتنا الذاتية وصحتنا الاقتصادية التي لا تقل أهمية، بالنظر إلى حجم الخسائر التي تكبدتها دول العالم بفعل هذه الأزمة، مما يفرض العودة إلى النشاط الاقتصادي وعمل المؤسسات الصناعية، في محاولة للخروج من عنق الزجاجة، وتخفيف الآثار الاجتماعية السلبية التي لا تقل خطورتها على حياة الأفراد عن خطورة الوباء، وربما تجاوزت آثارها المدمرة ما قد ينتج عن الوباء ذاته.

العبرة الآن ليست في الاحتياطات الوقائية لتجنب تفشي الجائحة، وإنما في وعي المسؤولين والمواطنين على حد سواء بإمكانية التعايش الحالي وربما المستقبلي مع هذا الفيروس، من حيث أخذ كل الإجراءات لمنع الإصابة به، بالموازاة مع العمل كل في موقعه للعودة إلى تنشيط العملية الإنتاجية التي تباطأت منذ بداية العام الجاري، والخروج من الوضع الاقتصادي المتجمد والعزلة الاجتماعية وتصحيح الوضع نحو عالم يتمتع بصحة اقتصادية جيدة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد