جلنا في البلاد العربية درسنا منهاج التاريخ في المدارس، ابتداء من الإعدادية وصولًا للتعليم العالي، أين تشابهت المقررات الدراسية مع اختلاف طفيف نظرًا إلى طبيعة المادة، بوصفها حقائق لا تحتمل التحريف. إلا أن هذه الأخيرة عرفت بعض الانحراف النسبي فيما يتعلق بالمصطلحات، وذلك لغياب التدقيق والتمحيص في استعمالاتها الدقيقة في محلها الأنسب، باعتبار هذا المجال علمًا ليس كالعلوم الأخرى المستقلة، لأنه يرتكز في مبناه ومحتواه على عدة علوم أبرزها علوم اللغة، والمنطق، والإعلامية، وعلم الوجود والمعرفة، وحقول التخصص العلمي المختلفة كحقول اللسانيات التطبيقية، وذلك لتناوله للأسس العلمية لوضع المصطلحات وتوحيدها في مخابر متخصصة شبه منعدمة في العالم العربي.

تأملات انتهت بنا بالرجوع لفترة تاريخية تميزت بتعدد المرجعيات والصور حسب الإيديولوجيات. فمعظمنا درس حقبة العصور الوسطى في تلك المقررات، وإن لم يكن، فأكيد لديه فكرة ولو طفيفة عن تلك الفترة التي مر بها العالم، أو بالأحرى أوروبا خصوصًا، بوصفها الرقعة الجغرافية المحددة التي كانت مسرحًا لتلك الأحداث المظلمة والتي طالت لقرون. مجتمعات تعيش الفقر والتخلف، وقعت تحت طائلة الاستعباد الذي تجلى في الخطاب الديني الذي فتح بدوره المجال أمام الممارسات القمعية التي كانت تمارسها الكنيسة تجاه سكان تلك المنطقة، من خلال تكريس سياسة الاحتكار للعلوم والترجمات، بوصفها المحرك الأساسي لعجلة الرقي والازدهار.

على عكس ما كان قائمًا في الطرف الآخر من المعمورة آنذاك – أو ما كان يسمى بالعالم القديم إن أردنا أن نكون أكثر دقة – حضارة مترامية الأطراف، تقوم على مشارق الأرض ومغاربها، تمتد من الهند شرقًا إلى تخوم بلاد الأندلس غربًا.

حضارة عُرفت كمنارة قائمة وسط بحار التخلف، بزغت بنورها العلمي لتشق بذلك غياهب الجهل الذي كان يلُف العالم آنذاك. إذ كانت كصرح تستقطب جُل علماء العصر، وذلك لما بلغته من تطور وازدهار، حيث جُبلت فيها عقول الناس على الكد والاجتهاد في ميادين الفن، العمارة، الفلسفة، الأدب، الترجمة، وخاصة الدين الذي كرس مبادئ وقيم الإنسانية حتى أصبح المرء يُكرم لمجهوده الفكري وإسهابه الثقافي في المجتمع الذي كان قائمًا في حضارة عُرفت بالحضارة الإسلامية.

الحضارة الإسلامية هي حضارة ذات عمق جوهري، تمثل في إرساء دولة الحق والقانون الذي يقوم بحد ذاته على سمو الأخلاق والترفع عن الحياة الفطرية للإنسان، في مجتمع كان يعيش أوج قوته وفي حقبة سميت بالعصر الذهبي، وهو مصطلح غاب كل الغياب عن مناهجنا الدراسية، حيث لا نجد له أثرًا في البحث العلمي المعاصر، لغياب الموضوعية والخضوع للعقل الغربي المدجج بغايات ومقاصد وأهداف ذات طبيعة إيديولوجية بالأساس تقوم حول احتقارها للآخر لأمر الذي جعل منا كعرب ومسلمين فريسة سهلة المنال ما أدى بنا إلى إعادة النظر في ترتيب أولوياتنا حسب ما يمليه علينا النموذج الغربي.

فمن غير المعقول عدم التساؤل ولو لمرة عن المغزى من ترك كل ما ينتسب لنا والانجرار وراء ما هو دخيل؟ علمًا بأن الشعوب والأمم متعارف عنها افتخارها بامتدادها التاريخي والثقافي وكل ما يساهم في إثبات هويتها ووجودها عبر الأزمنة. فلما الامتناع عن إطلاق تسمية العصر الذهبي عن تلك الحقبة من الزمن، وذلك نسبة لما كان يعيشه أسلافنا، عوضًا عن الانتساب لموروث ثقافي لا يمت لنا بصلة؟ ونقصد بذلك إطلاق تسمية عصر الظلمات على فترة كانت تعيش عكس ذلك.

تساؤلات تبقى حبيسة الأذهان دون إجابة تشفي غليلنا المعرفي، بغض النظر عن تلك المحاولات السطحية التي تتجه لتفسير كل ما هو ظاهر دون نتائج تذكر. فهناك من يرجح فكرة أن المنتصر هو من يدون التاريخ، وخاصة أن العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة يعيشان حالة من الفتور عكس ما يتمتع به العالم الغربي في وقتنا الحالي ما ساهم في تعميم ثقافة الغرب حيث باتت طاغية على حياتنا من خلال ظاهرة العولمة، ولكن كان من الأجدر أن نحرض عقولنا على التفكير والتدبر في موروثنا التاريخي وكل ما يحمله من ثقل وإسهامات في التطور البشري حتى يتسنى لنا الوقوف أمام هذا المد الثقافي الخطير بإعطاء لكل ذي حق حقه، أو لم يحن الأوان للنهوض بموروثنا من جديد من خلال إعادة تشكيل منطقة المفاهيم والمصطلحات تشكيلًا نظريًّا يستند على معطيات التمثل المتخيل بغية الوصول إلى معطيات علمية بحتة تقوم على التمثل البرهاني بعيدًا عن الانفصام الثقافي الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي من أجل العودة للريادة؟

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

تحميل المزيد