إذا أردت أن تتعرف على قوم فاركب حافلتهم. وهل كانت الحافلة يومًا شيئًا آخر غير صورة مصغرة للمجتمع؟! حين تركب الحافلة ستجد نفسك وسط مزيج مكون من مختلف أطياف المجتمع؛ الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ، الفقراء ومتوسطو الدخل، ذوو الطباع الخشنة ودمثوا الأخلاق، واقع كامل تدب فيه الحياة أمام عينيك كما هو، دون أي تجميل أو تشويه.
في المجتمعات الراقية يكون النظام هو القانون الأساس للحافلة، فأوقات الرحلات مثلا تكون منظمة ومعلومة مسبقًا لدى المسافرين، الأسبقية تكون لذوي الاحتياجات الخاصة ثم للقادم أولًا، ويكون من النبل واللباقة أن يقف الرجل بدل المرأة والصغير بدل الكبير والصحيح بدل العاجز. أثناء الرحلة تجدهم يقرأون أو يتصفحون هواتفهم أو يقضون وقتهم فقط في الصمت والتأمل حتى يصلون إلى وجهتهم، والجميع يحترم الجميع.. أما عن حافلاتهم فهي في الغالب في ظروف حسنة، قد لا تكون جديدة بالضرورة، لكنها تبقى نظيفة ولا تبدو عليها أي مظاهر إهمال.
في بلد مثل بلدي ستكون في مواجهة مباشرة مع أغلب مشاكل المجتمع حين تركب الحافلة؛ السخرية، الشجار، الشتم، الاعتداء، السرقة، وأشياء أخرى.. عيوبنا كلها قد تنكشف لك أحيانًا في رحلة واحدة على متن الحافلة. الأسباب بطبيعة الحال مركبة ومعقدة كجل مشاكلنا؛ فيها ما يتعلق بإهمال شركات النقل العمومي وجشعها، وفيها ما يتعلق بلامسؤولية المسؤولين، وفيها أيضًا ما يتعلق بسلوكنا المتخلف نحن كمواطنين وزبائن.
قصتنا كركاب تبدأ حتى قبل الركوب، فكثيرًا ما ينفد صبرنا بل ونفقد أعصابنا ونحن ننتظر في إحدى المحطات، ويحدث أن ننتظر طويلًا في الموقف ثم تمر الحافلة أمامنا دون أن يتوقف السائق بحجة الازدحام. عملية الصعود كذلك لا تكون سلسة دائمًا بالقدر الذي كان من المفترض أن تكون عليه، لا سيما في أوقات الذروة وفي بعض البؤر المشبوهة؛ إذ ستحتاج إلى أن تكون يقظًا وحريصًا حتى لا تسلبك أيادي اللصوص المتسللة ما بحوزتك دون أن تشعر. وإذا كنت من أولئك المحظوظين الذين استطاعوا الركوب بسلام، فقد يخونك الحظ وأنت على متن الحافلة، خاصة إذا كانت مكتظة وبدأ الركاب يتدافعون فيما بينهم. أحيانًا يخيل إلي أنني صعدت إلى إحدى ناقلات اللحوم خطأ من شدة التصاق الناس بالناس وتكدسهم، حتى أن الراكب منا قد لا يتمكن من النزول في محطته بسبب ذلك. ويزداد الأمر سوءًا حين ينشب شجار بين الركاب أو مع السائق، وبالأخص إذا تسبب في عراك وسط ذلك الزحام.
أما عن حافلاتنا فيبدو أنه لم يتبق منها إلا الاسم؛ الكراسي هشة مهترئة، المحرك يصرخ ويتوجع بأعلى صوته ألمًا وتعبيرًا عن تحميله ما لا يطيق، كسور في النوافذ والأبواب، ثقوب في السقف تمطر كلما أمطرت السماء، نقوش ورسومات وشتائم هنا وهناك. أجزم أن أي غريب بإمكانه أن يعرف عنا الكثير حتى حين تكون الحافلة خاوية تمامًا.
هكذا تحولت حافلاتنا من وسيلة نقل إلى كابوس يطاردنا كل يوم، حتى أن بعض الخطوط صارت أشبه ما يكون بأحياء الخطر، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود جديد. ولأن لكل مشكلة حل، ففيما يلي بعض الحلول من وجهة نظري المتواضعة:
المبادرات الشخصية
علينا أن نعترف أن لدينا مشكلة كبيرة في العلاقة بين «الأنا» و«النحن»، ففي جل مشاكلنا المجتمعية المشتركة ننتظر دائما أن يكون الطرف الآخر هو المبادر وليس نحن، ولا نعتبر أنفسنا جزءًا من المشكل بالرغم من أننا كذلك على أرض الواقع، ولو غيَّر كل منا سلوكه للأفضل لتحسن حالنا أكثر مما هو عليه الآن.
نشر الوعي
كما يورث الجهل وينتشر في المجتمعات، يمكن للوعي أن ينتشر أيضًا. لدي قناعة راسخة بأن مجرد نشر نماذج سلوكات متحضرة في هذ المجال عبر وسائل التواصل وتكريمها وتشجيعها قد يغير سلوك الناس للأحسن. بصيغة أخرى نحن نحتاج لقدوات في هذا الباب، ثم التعريف بها والرفع من قيمتها حتى تصير نموذجًا لدى الجميع.
المطالبة بالحقوق
كما يقال «لا يضيع حق وراؤه طالب»، ومن الحقوق التي ينبغي على المواطنين والمجتمع المدني المطالبة بها، توفير نقل عمومي في المستوى؛ ربما عن طريق فتح باب التنافسية بين شركات النقل، وربما بالضغط على هذه الشركات لتحسين خدماتها والرفع من ترددها خاصة في أوقات الذروة.
وختامًا، ما تزال حافلاتنا تفضحنا وتعري واقعنا المرير، ما تزال تصرفاتنا اليومية البسيطة تكشف قدر المسافة الحقيقية التي تفصلنا عن الحضارة والتقدم كمواطنين، وما تزال تظهر حجم الاستهتار والاستغلال واللامبالاة التي يتصف بها المسؤولون عندنا. فيا ليت شعري متى يتغير حالنا؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست