في صيف شديد الحرارة من أيام الطفولة أبصرت أبي يدلف من باب غرفتي، وهو يمسك بكتاب صغير للغاية، وقد كتب عليه حلفاء الشر العدد رقم 12 من سلسلة رجل المستحيل، طبعًا أنا لم أكن أدري ما معنى حلفاء، ولم أكن أعي ما هو المستحيل حتى يكون له رجلًا أو امرأة، ولكن بعد ذلك عبرت البوابة ودلفت إلى هذا العالم؛ عالم نبيل فاروق.
نبيل فاروق هو دكتور بشري تخرج في كلية الطب جامعة طنطا، ولكنه كان شغوفًا بشيء آخر لحسن حظ جيلنا؛ كان شغوفًا بإعطاء المتعة في شكل كتابة ورسم العوالم على صفحات الورق.
على ما أعتقد كان هذا الرجل يكتب وهو نائم، حتى يكون إنتاجه بهذة الغزارة المدهشة الداعية إلى التساؤل: من أين له بهذه الفسحة من الوقت ليكون بمثل هذه الإنتاجية في الكتابة؟ إذا أخرجنا وقت النوم، وتدبير احتياجاته اليومية؛ فسوف نجد أنفسنا أمام غزارة مستحيلة من الإنتاج الأدبي.
حياتي أيام الطفولة والمراهقة – أنا وكثيرون على ما أعتقد- هي عنواين وأغلفة أعداد رجل المستحيل وملف المستقبل (أشهر سلاسل دكتور نبيل فاروق) فسحة أيام إجازة نصف العام لا أستطيع أن أفصلها مثلًا عن قصة عملية الأدغال، تمتعي بالبحر في أيام الصيف لا أستطع فصله عن غلاف عملية كونت كارلو.
كانت حياة جيلنا متداخلة مع هذه القصص بشكل يستحيل معه فصله عندما ترى الآن أي غلاف لقصة من قصص رجل المستحيل يستدعي على فور مشاعر ومشاهد شديدة الجمال والخصوصية من أجمل أيام جيلنا، أيام كانت الأحلام مشروعة ومستحقة والحياة غضة وتوعدنا بكل جميل كالجنة عندما وعدت المتقيين بكل ما هو لذيذ وشهي
ولأن الثقافة هي العدو الأول لأى دولة من دول العالم الثالث، فكان كل ما يتعلق بالثقافة قبل هذا الرجل حاولت الحكومات أن تجعله كئيبًا مرتبطًا بالجنون والخروج عن الطريق القويم.
إذا ما خرج كاتب في برنامج كانت إضاءة الإستوديو خافتة كئيبة مثل إضاءة بقالة في منطقة نائية في يوم ممطر، إذا تكلم شاعر قال كلامًا معقدًا لا يفهم منه شيئًا ويرسم صورًا شعرية شديدة الغموض يشق عليك فهمها.
فتكونت عند عموم الشعب صورة ذهنية أن الثقافة والاطلاع يجعل الفرد قريبًا من حافة الجنون، حتى جاء نبيل فاروق وحول هذه الصورة إلى كتيب صغير بكلام مفهوم غير ركيك ومشوق ويذيب لك المعلومة واللفظ العربي الفصيح في إناء شهي بالأحداث والمغامرات.
وكانت ولادة البطل الذي لا يهزم أدهم صبري رجل المخابرات الوسيم الذي يجيد كل شىء في الحياة، الذي يصلى، والذى لا يقتل إلا عند الضرورة، أسطورة الكمال، القدوة التى شكلت مفاهيمنا عن صفات البطل وخرجنا إلى الحياة وبحثنا كثيرًا عن هذا البطل ولم نجده.
وفي أثناء تربع هذا البطل كان هناك نموذج آخر يتكون في رحم الأيام، وكان هناك مبدع آخر من طنطا يعد لنا جولة جديدة من الإبداع، كان هناك رفعت اسماعيل أستاذ أمراض الدم الذي لا يجيد أي شىء في الحياة حتى إنه يبقى على قيد الحياة بمجهود كبير.
رفعت إسماعيل أو نموذج البطل الضد، رفعت إسماعيل الذي من الممكن أن تجده بجانبك في قهوة بلدي، وأنت تشرب الأرجيلة، رفعت إسماعيل، الذي من الممكن أن يكون جارك الذي تلقي عليه تحية الصباح، وهو يبادلك التحية لا تستطيع تمييزها من كثرة السعال، المميز لشرهي التدخين.
أحمد خالد توفيق دكتور الأمراض الحارة مؤلف سلسلة ما وراء الطبيعة، ومخرج حياة رفعت إسماعيل إلى النور، وهو قبل أن يكون كاتبًا، مثقف كبير وقارئ عظيم.
إلى هنا كفتا الميزان قد تكون متساوية ومتعادلة، وقد يكون د. نبيل فاروق، يصنف أنه من الرواد أو كولومبوس الأدب الشبابي، ومن جاء بعده جاء على طريق شبه ممهد، والكل أقر بهذا، ولكن النهايات لم تكن كذلك.
فعند موت رفعت اسماعيل بطل ما وراء الطبيعة أو انتهاء السلسلة كانت هناك ثورة عارمة في أرجاء التواصل الاجتماعي، وظهر تضامن غير عادي مع هذه الشخصية على عكس أدهم صبري، الذي انزوى في الركن المظلم من دون أي تبعات عظيمة.
وهنا يجب أن تكون وقفة لهذا السلوك العفوي غير المدفوع من جهات بعينها؛ لماذا كان موت رفعت له هذا الأثر المزلزل على قراءه؟ على عكس موت أدهم صبري الذي جاء عاديًّا باهتًا، لم يكن مثل حياته صاخبًا؟
أولًا: لأننا كبرنا وأدركنا أن أدهم صبري هو أقرب إلى الأبطال الخارقين الذين نراهم في السينما، ولا مجال أن يكون هذا الرجل موجودًا في الحياة، فكانت حياته مدهشة وجذابة، ولكنها بعيدة كل البعد عن حياتنا ولا تتقاطع معها من قريب أو بعيد أما رفعت إسماعيل، فكما أسلفنا كان واقعيًّا، لدرجة أنك يخيل لك أنك تراه في حياتك اليومية مرتين على الأقل، فكان الحزن على الفراق بمقدار ما أحدثه في القلب من ألفة.
ثانيًا: الفئة العمرية التى تأثرت بما وراء الطبيعة، هي فئات أصغر بكثير من الفئات العمرية التى تربت على رجل المستحيل، فكانت المشاعر متقدة، كما هو المعروف عن مشاعر هذه الفئة العمرية.
ثالثًا؛ موقف الكاتبين الإنسانى من قرائهم؛ نبيل فاروق، كان يقوم بدور الراوى الحكيم الذي يعرف، والآخرون لا يعرفون، وكان موهوبًا بالفعل في إعطاء المعلومة والمتعة، ولكنه لم يكن موهوبًا في الاستماع لقرائه؛ كان يتعامل معهم على أنهم تلاميذ في معبد ينبغى أن يتلقوا المعلومة، لا يتساءلون عنها أو عن مصدرها أو يأتون بمعلومة من مكان آخر ويدحضوا بها معلومته.
أما أحمد خالد توفيق، فهو تواضع يمشى على قدمين، كان على قدر كبير من العلم والمعرفة، ولكنه دائم السخرية من نفسه، وتوزيع الأعذار على قرائه، من يستحق ومن لا يستحق، وهنا نشأت تلك العلاقة الغريبة بينه، وبين قرائه التي جعلتهم يحزنون على انقطاع التواصل بينهم وبين دكتور أحمد، عندما مات رفعت إسماعيل؛ لأنهم يرون أحمد خالد، في رفعت إسماعيل لقرب كل شىء منهم.
وكان رد فعل القراء تجاه موت أبطالهم الروائيين بمثابة بروفة، إذا ما حدث هذا على أرض الواقع، وقد حدث بالفعل عندما توفي الكاتبان بفارق زمني حوالي ثلاثة أعوام.
كلنا نتذكر ماذا حدث عندما مات دكتور أحمد خالد توفيق؛ كانت وسائل التواصل الأجتماعي عبارة عن سرادق كبير، كل الناس تعزي بعضها في صدق وحزن، ورأينا كيف كانت جنازة أحمد خالد توفيق، محملة بمشاعر شديدة الخصوصية، لا تنشأ إلا بين إخوة الدم الواحد، ولكن الحصاد كان على قدر ما تم زرعه؛ فكان أحمد خالد، مناصرًا للشباب، منتصرًا لهم في كثير من المواقف التى هوجموا فيها، وكانت من أهمها ثورة يناير، والتى ناصرها كثيرًا دكتور أحمد خالد بقلمه ومواقفه.
كان متفهما لنزق الشباب وجنوحهم وتهورهم، ولم يلعب أبدًا دور الناصح الحكيم غير المتورط في الأخطاء، وكانت دائمًا مقالات دكتور أحمد، بمثابة المصباح الذي تارة ينير المناطق المظلمة، التى قد لا تنتبه لها في سعيك الحثيث المتهور أحيانًا، وتارةً أخرى الضوء المحذر من مغبة ما يحدث، على عكس نبيل فاروق، الذي أدان الثورة من أول يوم، وكان انحيازاته واضحة، وكأنما يقول: أنا لم أكن أقصد تلك الوطنية، التى فهمتموها، أنا أريكم ما أرى، ولا يستقيم أن أعطيكم المصباح لتروا ما تظنوه حقًا؛ فأنا النور والنار والطريق والمنتهى؛ لذلك كانت نهاية نبيل فاروق، سطرين في جريدة رسمية، كما عاش دائمًا في كنف الدولة والنظام؛ فكان التقدير على قدر الكفاح.
كل مبدع له الحق في اختيار انحيازاته، ولكن لا يأخذ امتيازات العيش على حجر النظام، ويريد تخليدًا، كمن أخرج الإبداع من جحر النضال والمقاومة، ما لكم كيف تحكمون؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست