(1)
هذه أول مقالة أكتبها منذ مقالة رثاء الرئيس الراحل محمد مرسي – رحمه الله- وهي بذلك إحدى أطول فترات التوقف عن الكتابة منذ أعوام طويلة، ولا أعرف لهذا سببًا محددًا، ربما حالة «القرف» العامة عندي وعند غيري، من كم الظلم والتبجح و(الإفراط) في الاستخفاف بالعقول من جانب الحاكم العسكري، ومحاسيبه، وألاضيشه، وكم «التفريط» الذي يمارسه في مقدرات الأمة الاقتصادية وفي أمنها القومي، في الوقت الذي يرفع فيه – كذبًا وزورًا – شعار الدفاع عن الأمن القومي.
(2)
وفي تلك الشهور شاء الله له ولنظامه أن يتعرى إلى النهاية، وأن تسقط عنه أوراق التوت التي كان يحاول أنصاره أن يداروا بها من سوءاته، فبعد مقولاته الشهيرة خلال السنوات الماضية:
– «إنتم عايزين تاكلوا مصر يعني؟ حتاكلوها يعني؟» (في رده على مطالبات عمالية فئوية تطالب بزيادات خمسين جنيهًا شهريًّا).
– «صبحوا على مصر بجنيه».
– «والله العظيم أنا لو ينفع أتباع لأتباع».
– «والله العظيم أنا فضلت عشر سنين مافيش في تلاجتي غير المياه».
– «إنت بتقول لي أنا غلبان معنديش.. وأنا كمان غلبان معنديش».
– «ماحدش قال لكم إننا فقرا قوي؟ لازم تعرفوا إننا فقرا قوي قوي».
فإذا به بعد الفيديوهات الشهيرة لمحمد علي – التي أظهرت المسكوت عنه في أمور كثيرة، والتي تحدثت عن القصور التي يبنيها- يخرج على الناس في معرض الرد عليها ليقول: «أيوه بابني قصور، ولسه حأبني قصور، هي مصر دي شوية؟» (ليس قصرًا لاحظوا، بل قصورًا)، وهكذا انقلب الحال من ادعاء الفقر والمسكنة في معرض الضغط على الشعب، واستلاب أمواله، وإهدار حقوقه، فإذا بنا نتحول لدولة عظمى في معرض تبرير بذخه وقصوره وسفهه في إهدار المال العام، هذا الهدر الذي انتقل من مشروعات مجهولة الجدوى الاقتصادية، ليتحول إلى بذخ مباشر وقصور له ولعائلته، بخلاف كل منطق للأولويات في بلد قال عنها إنها «فقيرة قوي قوي»، فإذا كانت حقًّا بلادًا فقيرة قوي قوي، ألا تعد خيانة لله ولهذا الشعب وللأمانة أن يأخذ اللقمة من فم الفقير ليضعها في ثمن صالون مذهب، أو سجادة موشاة في قصره، وإذا كانت مصر غنية، ألا تعد خيانة لله ولهذا الشعب وللأمانة أن يضيق عليه بالكذب، ويرفع الأسعار، ويكوي الناس بها، بينما هو يتنعم في القصور؟!
(3)
ولا يخفى على أي متابع عنده قدر من الثقافة أن ملامح جنون العظمة تتصاعد بإطراد عنده، فبالإضافة إلى حديث القصور إذا به يقول بالنص في ثلاثة مواضع في خطابه «جميع أجهزة الدولة (باسوا إيدي) خلال الأيام الماضية علشان ما أردش، لكن أنا أصريت إني لازم أتكلم»، هذا التعبير المتكرر «باسوا إيدي» يوضح إلى أي مدى أصبحت نظرته علوية لمن حوله – وهي التي تسمى الأجهزة «السيادية» ناهيك عن باقي الشعب، وما كانت هذه الكلمة لتتكرر على لسانه لولا أنها تسكن قلبه وعقله، فهو لا يراهم إلا خدمًا عنده، فكل مرؤوسيه عنده خدم وحشم، وإذا أرادوا منه طلبًا – ولو لمصلحته أو مصلحة البلاد- فهم يقدموه بتذلل وضعة.
(4)
وفي السياق ذاته، وفي مقابل تذللهم ومسكنتهم من أجل أن يأخذ رأيهم في الاعتبار، يرى نفسه الملهم، فهم جميعًا مخطئون وهو وحده الصواب، فهو يفاخر أنه يضرب عرض الحائط بإجماع مستشاريه، بل بإلحاحهم، ولا يسمع إلا صوت نفسه فقط، ولا يقول إلا ما يمليه عليه هواه فقط، فهل مثل هذا يؤتمن على حكم دولة هي قلب العروبة ودرع الإسلام؟
(5)
والذين يتوقعون أن يهاجم السيسي إثيوبيا عسكريًّا بسبب سد النهضة مخطئون تمامًا في رأيي؛ لأن من لا يمتلك مجرد شجاعة الاعتراف بالخطأ لا يمكن أن يمتلك شجاعة المواجهة العسكرية، فمنذ أن أعلنت أثيوبيا تعنتها واستمرارها في بناء سد النهضة، وبالتالي كشفت عن سذاجة السيسي الذي – مرة أخرى ضرب عرض الحائط بآراء الخبراء الاستراتيجيين (الحقيقيين)- وانساق وراء التسويف الإثيوبي الواضح لكل ذي عينين عبر ست سنوات كاملة، حتى أصبح السد حقيقة واقعة، بل وقع بنفسه على الاتفاقية التي تشرعن هذا السد، وبالتالي تهاون في حقوق مصر كلها، المادية والتاريخية والشرعية، وأضاع خيارات مصر كلها في أهم موضوع من موضوعات أمنها القومي، في الوقت الذي أهدر فيه عشرات المليارات من مواردها في أسراب طائرات، وحاملتي طائرات، وقاعدة عسكرية ضخمة في الغرب بعيدًا عن مواضع الأخطار الحقيقية التي تهدد الأمن القومي، ومع هذا ينطلق إعلامه في موجة إعلامية يحمل فيها الرئيس مرسي الذي حكم لعام واحد – وكان هو وزير دفاعه– مسؤولية ملف سد النهض! بينما الرئيس الراحل مرسي رأيناه جميعًا يبحث كل الخيارات ولا يرهن مصيره ومصير بلاده برهان واحد، بينما استسلم السيسي منذ البداية وحتى النهاية في ست سنوات من التسويف والخداع المخزي، فإن كان لا يستطيع أن يعترف بالخطأ بل يلقيه على من سبقه، فكيف ستكون عنده شجاعة المواجهة؟
(6)
وتستمر الاختفاءات القسرية، وتستمر التصفيات، ويستمر التعذيب في السجون، ويستمر التحريض والكذب، ويستمر التطاول على الدين ومحاولة تكميمه وتأميمه، وتستمر الضرائب والمغارم في التصاعد، ويستمر الطغيان، فعن أي شيء من أمرك يا حاكم مصر نتحدث؟ أعن قصورك، أم غرورك، أم جبنك، أم جورك؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست