جاءت الحرب العالمية الأولى قمةً للصراع بين البرجوازيات القومية المأزومة، على المواد الخام والمستعمرات والأسواق، ليحدث الصدام بين ألمانيا والإمبراطورية العثمانية من جهة وفرنسا وبريطانيا وروسيا من جهة أخرى، وفي خضم كل هذا يجتمع الجنرال الفرنسي بيكو مع الجنرال البريطاني سايكس في ١٩١٦ لعمل الاتفاقية التي سميت بعد ذلك باسمهما «سايكس بيكو» لاقتسام أملاك الإمبراطورية العثمانية (رجل أوروبا المريض) بعد نهاية الحرب، ويتفقان على أن تظل فلسطين تحت إدارة دولية بعد الاقتسام، ويعود الجنرال سايكس الذي عُرف عنه المعاداة الشديدة لليهود والسامية، ويلتقي وايزمان، ويعاد طرح فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين، والذي يتماشى هذه المرة مع رغبة الإمبراطورية البريطانية في خلق كيان استعماري قريب من قناة السويس لحماية مصالح الإمبراطورية، وينتج عن هذا «وعد بلفور» في ٢ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩١٧.
ملاحظة: تمت صياغة وعد بلفور ليضمن الحقوق السياسية لليهود المؤيدين لاندماج المعارضين للصهيونية بأوروبا، خاصةً بين البرجوازية اليهودية التي حققت إنجازات في بريطانيا، ووصلت إلى مناصب عليا مثل وزيرٍ لمستعمرة هندية، اليهودي الذي عارض فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بكل قوة، لذا تم رعاية مصالحهم وطمأنت مخاوفهم أثناء صياغة الوعد.
ملاحظة ٢: يجب هنا أيضًا رؤية الأمور في سياقها؛ إذ جاء وعد بلفور بالتزامن مع اشتعال الثورة البلشفية التي كانت معظم قياداتها من اليهود المعادين للصهيونية، إذ جاء «وعد بلفور» أيضًا محاولةً لقطع الطريق أمام انتشار الثورة البلشفية بين باقي يهود أوروبا، وهكذا كانت الصهيونية هي أكبر حليف في مواجهة تصاعد المد الاشتراكي.
وهنا أيضًا يجب أن نشير الى أن نص «وعد بلفور» تضمن التزام بريطانيا العظمى بإنشاء وطن قومي لليهود، مع الحفاظ على الحقوق المدنية والدينية لباقي أهل فلسطين (دون أي ذكر لحقوق سياسية) كما جاء صك الانتداب بناءً على توصيات عصبة الأمم يحمل المعنى نفسه، هذا في الوقت الذي طرح فيه العرب فكرة دولة ديمقراطية برلمانية يُمثَّل فيها كل الأطياف والفرق والطوائف الدينية بشكل ديمقراطي، وهنا يجب أن نشير إلى أن بريطانيا العظمى، كانت الأكثر رجعية ووقفت ضد إقامة دولة ديمقراطية في فلسطين، كما وقفت من قَبل ضد ثورة عرابي التي كانت تنادي بعمل ملكية دستورية في مصر
دخل الجيش البريطاني لفلسطين ومعه فيلق من اليهود الصهاينة، وكان أول حاكم عسكري لفلسطين هو هربرت صاموئيل، وهو وزير صحة سابق في الحكومة البريطانية، ومعروف عنه انتماؤه الصهيوني المتعصب وصداقته لوايزمان، وكان أول من قدم مقترح إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين في ١٩١٤ للحكومة البريطانية، سهَّل صاموئيل عمليات الهجرة اليهودية لفلسطين، وسهَّل عملية شراء الأراضي عبر الوكالة اليهودية، كم أقام الجامعة العبرية التي افتتحها بلفور بنفسه، إذ جاء الانتداب البريطاني لتنفيذ ما تعهد به من تسهيل إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين جزءًا من الخطة الاستعمارية التي تهدف إلى زرع كيان استعماري موالٍ لبريطانيا بالمنطقة، بالقرب من قناة السويس، بحيث يكون خادم الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس، وهنا يجب الإشارة إلى أن معظم الأراضي الفلسطينية في ذلك الوقت كما هو الحال في مصر وباقي الدول العربية يسيطر عليها الإقطاعيون، وعمليات بيع الاراضي لليهود كانت تتم بين الوكالة اليهودية وملاك غائبين من هؤلاء الإقطاعيون، سواء كان غيابهم لأوروبا او كان غيابهم بالمدن الكبرى، وكانت الوكالة تشترط مع الشراء طرد الفلاحين العرب العاملين بالأرض لاستبدالهم بعمال يهود.
وهذا بعض مواد نص قرار عصبة الأمم بخصوص الانتداب البريطاني في فلسطين يظهر بوضوح أن قرار إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين قرار دولي استعماري (ترجمة وسيم وجدي)
مجلس عصبة الأمم
لما كانت دول الحلفاء الكبرى قد وافقت على أن یعھد بإدارة فلسطین – التي كانت تابعة فیما مضى للدولة العثمانیة – بالحدود التي تعینھا تلك الدول، إلى دولة منتدبة تختارھا الدول المشار إلیھا تنفیذًا لنصوص المادة 22 من میثاق عصبة الأمم.
ولما كانت دول الحلفاء قد وافقت أیضًا على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن تنفیذ التصریح الذي أصدرته في الأصل حكومة صاحب الجلالة البریطانیة في الیوم الثاني من شھر نوفمبر (تشرین الثاني) 1917 وأقرته الدول المذكورة لصالح إنشاء وطن قومي للیھود في فلسطین، على أن یفھم جلیًّا أنه لن یؤتى بعمل من شأنه أن یضیر بالحقوق المدنیة والدینیة التي تتمتع بھا الطوائف غیر الیھودیة الموجودة الآن في فلسطین، أو بالحقوق والوضع السیاسي مما یتمتع به الیھود في أي بلاد أخرى.
لذلك فإن مجلس عصبة الأمم بعد تأییده الانتداب المذكور یحدد شروطه ونصوصه بما یلي:
المادة الأولى: یكون للدولة المنتدبة السلطة التامة في التشریع والإدارة باستثناء ما یكون قد قید في نصوص ھذا الصك.
المادة الثانیة: تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سیاسیة وإداریة واقتصادیة تضمن إنشاء الوطن القومي الیھودي وفقًا لما جاء بیانه في دیباجة ھذا الصك وترقیة مؤسسات الحكم الذاتي، وتكون مسؤولة أیضًا عن صیانة الحقوق المدنیة والدینیة لجمیع سكان فلسطین بقطع النظر عن الجنس والدین.
المادة الثالثة: یترتب على الدولة المنتدبة أن تعمل على تشجیع الاستقلال المحلي على قدر ما تسمح به الظروف.
المادة الرابعة: یعترف بالجمعیة الصھیونیة كوكالة ملائمة ما دامت الدولة المنتدبة ترى أن تألیفھا ودستورھا یجعلانھا صالحة ولائقة لھذا الغرض، ویترتب على الجمعیة الصھیونیة أن تتخذ ما یلزم من التدابیر بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة البریطانیة للحصول على معونة جمیع الیھود الذین یبغون المساعدة في إنشاء الوطن الیھودي.
المادة الخامسة: تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن ضمان عدم التنازل عن أي جزء من أراضي فلسطین إلى حكومة دولة أجنبیة، وعدم تأجیره إلى تلك الحكومة أو وضعه تحت تصرفھا بأي صورة أخرى.
المادة السادسة:
على إدارة فلسطین ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأھالي الأخرى.
المادة السابعة:
یعترف بوكالة یھودیة ملائمة ھیئةً عمومیة لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطین والتعاون معھا في الشؤون الاقتصادیة، والاجتماعیة، وغیر ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي الیھودي ومصالح السكان الیھود في فلسطین، ولتساعد في الأحوال الملائمة، وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة الیھودیة المشار إلیھا في المادة الرابعة حشد الیھود في الأراضي الأمیریة والأراضي، وتشترك في ترقیة البلاد، وأن تسھل ھجرة الیھود.
تتولى إدارة فلسطین مسؤولیة سَنّ قانون للجنسیة، ویجب أن یشتمل ذلك القانون على نصوص تسھل اكتساب الجنسیة الفلسطینیة للیھود الذین یتخذون فلسطین مقامًا دائمًا لھم.
وفي نص القرار السابق يبدو بوضوح أن قرار إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين كان قرارًا دوليًّا استعماريًّا، لم يراعِ أي حقوق سياسية للفلسطينيين على أرضهم، وما هو إلا امتداد لاقتسام تركة الدولة العثمانية المهزومة بعد الحرب العالمية الأولى.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست