في أعقاب النكبة ومع استحواذ المحتل الإسرائيلي على رواية الأحداث أصبح الفلسطينيون معزولين من التاريخ، وأصبحت روايتهم لأحداث النكبة في طي النسيان أو التناسي المتعمد. هذا الوضع جعل الحاجة لذاكرة مضادة فلسطينية تعبر عن نفسها وتقاوم حاجة ملحة، وذلك لإنقاذ هوية وتاريخ شعب تعرض لمأساة إنسانية. وهنا يجدر بنا إلقاء الضوء على أهمية الذاكرة المضادة، فهي ذاكرة تقف في مواجهة الذاكرة الرسمية المهيمنة لتسد الفجوات أو مواضع النسيان المتعمد في الذاكرة الرسمية.

في الحالة الفلسطينية، استطاع الاحتلال المسيطر على الذاكرة الرسمية أن يُرَوِّج بكل وسائله لرواية مغايرة للأحداث حين زوَّر ولفق أحداث النكبة بأن الفلسطينيين تركوا مدنهم بكامل إرادتهم دون تعرضهم لعنف أو طرد أو خوف أو تخويف، استطاع الاحتلال أيضًا دفع المجتمع الدولي لقبول روايته عن أحداث النكبة، فأصبحت هذه الرواية رائجة حتى الثمانينيات من القرن الماضي حين ظهر مؤرخون جدد على الساحة الإسرائيلية بدأوا في العمل على الاعتراف برواية الآخر للأحداث أي الرواية الفلسطينية.

فيما يتعلق بتدوين التاريخ الفلسطيني، فإن المصادر الموثقة إما محيت أو دمرت أو تم إدراجها داخل الأرشيف الإسرائيلي بعد نكبة 48 مما يصعِّب على المؤرخين الفلسطينيين الحصول عليها. من هنا تبرز أهمية الذاكرة والروايات الشفهية الفلسطينية كمصدر لا بديل له. ولكن تظهر لنا هنا إشكالية علمية حيث إن الذاكرة الشفوية لا تتمتع بالمصداقية كالذاكرة المكتوبة خصوصًا وإن كانت الذاكرة الشفوية تحكي أحداث قد مرت عليها عقود ككنبة 48، بالإضافة إلى كونها نتاج تجارب شخصية متفاوتة وبذلك تفقد عامل الموضوعية والدقة العلمية المطلوبة لاعتمادها كمصدر. ولكن في الحالة الفلسطينية التي تم فيها نهب ومصادرة وتدمير الذاكرة المكتوبة فإن الذاكرة الشفوية يجب اعتمادها مصدرًا للتاريخ الفلسطيني الضائع، وذلك لمواجهة الذاكرة المهيمنة التي أفقدت الشعب الفلسطيني حقوقه وطمست ماضيه وهددته في هويته. ومن هنا تظهر أهمية الذاكرة الفردية والجماعية وشهاداتها المضادة في مقابلة الرواية الصهيونية لأحداث النكبة، فالذاكرة المضادة تعتبر أهم وآخر الأسلحة المتاحة لمواجهة الجانب الصهيوني وروايته المدسوسة لأحداث النكبة.

يجد الدارسون والباحثون في المخيمات الأرض الخصبة لمحاولة إعادة ترتيب أحداث النكبة عن طريق الشهادات والروايات الشفهية التي يتم تجميعها سواء ممن عاشوا وعايشوا أحداث النكبة بشكل مباشر أو من الأجيال اللاحقة التي ورثت هذا الماضي المستمر أثره نتيجة لاستمرار حالة اللاجئ الفلسطيني. ومن هنا يتمحور دور المؤرخ والباحث حول استعادة تاريخ وطنه وشعبه وهو ما حاول الباحث سلمان أبو سته تحقيقه بالرجوع إلى الماضي لإعطاء فرصة لمن تم إسكاتهم عن عمد لإسماع روايتهم عن الأحداث حين قام بعمل مهول في إنشاء أرشيف للمدن التي تم تدميرها بعد النكبة وهذا العمل تطلب الاستشهاد برواية الفلسطينيين الذين عاصروا الأحداث مما أعطاهم فرصة كما أشارنا للإدلاء بشهادتهم وبالمشاركة في عملية تدوين تاريخهم الذي كان في طريقه إلى النسيان.

استطاع إذًا الفلسطينيون إيجاد طرق بديلة لتدوين شهاداتهم وإسماع أصواتهم للعالم، وهنا يظهر لنا كاتب مثل مصطفى مراد الدباغ الذي عكف في الفترة بين عامي 1947-1965 على تدوين كل ما يميز بلده فلسطين في موسوعة من أحد عشر جزءًا من عالم النبات إلى عالم الحيوان، من الطبيعية الجغرافية إلى الحالة المناخية، من علم السكان إلى علم الآثار بالإضافة إلى عادات الشعب تحت عنوان (بلدنا فلسطين)، نشأت هذه الرغبة لدى مصطفى الدباغ من قناعته أن الشتات سيستمر طويلًا لذا وجب التدوين لكيلا تذهب ذكرى الوطن في طي النسيان. أما الكاتب عارف العارف فقد عكف على إنتاج عمل من ست مجلدات بعنوان (النكبة والفردوس المفقود) يصف فيه بدقة اختفاء فلسطين من على الخارطة عن طريق تتبع كل المدن والقرى الفلسطينية كما أنه دون قائمة مفصلة عن كل فلسطيني مات مدافعًا عن الأرض في عام 48.

يجدر بنا أيضًا الإشارة إلى أن دور الشاعر والأديب لا يقل أهمية عن دور المؤرخ والباحث، فأغلبية الأعمال الأدبية الفلسطينية ما هي إلا محاولة للبحث عن هوية الشعب الفلسطيني بالإضافة إلى كونها حلقة تحاول وصل الحاضر بالماضي، فحاضر الفلسطينيين لا يمكن فصله عن ماضيهم، بل إن حاضرهم يعتمد بشكل أساسي على ما مروا به في الماضي من مآسٍ أثرت وما زالت تؤثر في حاضرهم بل ومستقبلهم. تكمن أيضًا أهمية هذه الأعمال في محاولتها استكشاف الذاكرة الفلسطينية من أجل استخدامها كذاكرة مضادة لمواجهة المحاولات الصهيونية لتزييف التاريخ، فتاريخ ارتباط الأعمال الأدبية بذاكرة الأمة يرجع إلى العصور القديمة ففي كل الأزمات عبر التاريخ كانت النصوص الأدبية كفيلة بحفظ ذاكرة الأمة وبقائها عبر الزمن.

وقد استطاع الإنتاج الأدبي في الحالة الفلسطينية أن يعيد بناء الذاكرة الجمعية المنسية عن طريق إعادة إحياء أحداث النكبة المثيرة للجدل عبر إدماج قصاصات من التاريخ وشهادات شفوية داخل الأعمال الأدبية، فأحداث نكبة 48 كانت حاضرة بشكل واضح في أعمال أدبية لكثير من الكتاب الفلسطينيين بهدف استعادة الذاكرة المنسية، وذلك عن طريق الاعتماد على أدوات فنية متعددة من الفلاش باك إلى الصور الخيالية ومن إدماج ومضات من الذاكرة إلى الاعتماد على مراجع موثقة. فالرواية الأدبية الفلسطينية اعتمدت بشكل أساسي على تقديم مقارنة بين الأحداث والتفاصيل اليومية للشعب الفلسطيني قبل وأثناء النكبة، وذلك من شأنه إبراز ما أحدثته النكبة من زلزلة في الحياة المستقرة للشعب الفلسطيني في المكان وتأثيرها في الجانب النفسي والاجتماعي والحياتي للفلسطيني، الذي أصبح يعيش في حنين إلى تلك الأيام والأرض والحياة. فالحنين في الأدب الفلسطيني ما بعد النكبة أمر جلي، إنه الحنين إلى تلك الأرض وإلى ذلك البيت، الحنين إلى الاستقرار والأمان والعائلة، الحنين إلى الوطن والجنة المسلوبة مما يشعر الفلسطيني اللاجئ بمرارة وضعه الحالي ويزكي في نفسه رغبة العودة إلى الوطن والأرض المسلوبين، فالاحتلال ومصادرة الأراضي الخصبة وإحكام السيطرة على الاقتصاد واللجوء ومرارة وضع الفلسطينيين سواء اللاجئ منهم أو من بقي في الأرض المحتلة كلها أحداث لا يمكن لأي كاتب فلسطيني أن يغض الطرف عنها.

في الحالة الفلسطينية تحمَّل كثير من الأدباء والشعراء مسئولية حماية تاريخ وذاكرة الشعب. ومن هنا أصبح من الضروري ذكر دور الكاتب الشاهد الذي يلخص آلام ومعاناة شعبه ويوثقها، حيث تظهر الحاجة الملحة لهذا النوع من الكتابة التي تؤرخ لأحداث ماضٍ تم محوه. أصبحت هذه الإستراتيجية هي الأداة التي يستخدمها الفنان والكاتب الفلسطيني للمقاومة والتي تستوجب في كثير من الأحيان اغتياله لوضع نهاية لمسيرته التي ألهمت وتلهم شعب من ورائه. نستطيع إذًا القول بأن اغتيال أدباء وفنانين كغسان كنفاني وناجي العلي يحمل في طياته محاولة لإسكات أدباء أخذوا على عاتقهم مهمة استدعاء أحداث ماضٍ مسكوت عنه في مقابل الرواية التاريخية المهيمنة.

يُعَدُّ إذًا الإنتاج الأدبي الفلسطيني واحدًا من طرق إسماع الصوت الفلسطيني وتدوين الشهادات سواء بالرجوع إلى النكبة عن طريق استرجاع أحداثها أو عن طريق وصف حالة الفلسطينيين وقت حدوث النكبة. فالإنتاج الأدبي الفلسطيني قدم شهادات ذات قيمة كبيرة لأحداث النكبة الصادمة بالإضافة إلى دوره في إخراج معاناة الفلسطينيين أثناء وعقب النكبة للنور والتي كانت لتُطمس وتُهمش لولا هذا الإنتاج الأدبي، حيث تناول الكثير من الكتاب والشعراء في أعمالهم وخصوصًا سيرهم الشخصية هذه الأحداث مما ساعد على نشر كثير من القصص التي لولا هذا الإنتاج الأدبي لمحيت من الذاكرة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد