تعود بداية المقاومة الفلسطينية للوجود الصهيوني إلى أكثر من 100 عام، ففي عام 1891م قدَّم عدد كبير من وجهاء القدس مذكرة احتجاج إلى «الصدر الأعظم» في الأستانة يطالبونه بالتدخل لمنع الهجرة اليهودية، وتحريم امتلاك اليهود للأراضي الفلسطينية. وفي العام التالي لاحظ أهالي قرية «الخضيرة» و«ملبس» تنامي عدد المستوطنات اليهودية في أراضيهم، فقاموا بهجوم مسلح عليها أسفر عن سقوط قتلى من الطرفين، وفي الفترة نفسها ظهرت كتابات يهودية في الصحف الأوروبية تحذر من ثورة عربية وشيكة بسبب عمليات الهجرة اليهودية التي بدأ العرب يلتفتون إليها.
وبتتبع مسيرة المقاومة الفلسطينية عبر هذه السنين الطويلة منذ بدايات التواجد الصهيوني على الأرض يتضح لنا أنها كانت تندلع كردود أفعال وليست كإستراتيجية منظمة طويلة الأمد، فتختلف قوة المقاومة – سواءً كانت سياسية أو هبات شعبية – بحسب قوة المثير؛ ويلاحظ ذلك على أول تحرك شعبي فلسطيني، مرورًا بالانتفاضات الشعبية التي شهدتها المدن الفلسطينية في العشرينيات والثلاثينات احتجاجًا على أفواج الهجرة اليهودية التي تواصلت دون انقطاع تحت سمع وبصر؛ بل وبمساعدة حكومة الانتداب البريطانية، ووصولًا إلى انتفاضة الأقصى عام 2000 التي أشعل فتيلها زيارة المتطرف الإسرائيلي «أرييل شارون» للمسجد الأقصى، في ظل دعوات متزايدة بهدمه وإقامة ما يسمى بهيكل سليمان على أنقاضه.
استمرت هذه الانتفاضة، حوالى 4 سنواتٍ ونصف، وخلالها اقتصرت سبل المقاومة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال على الأسلحة الفردية والقذائف قصيرة المدى المصنوعة محليًّا، والعمليات الاستشهادية التي تجاوز عددها الـ100 خلال سنوات الانتفاضة في مختلف المستوطنات «الإسرائيلية»، وتسببت في انعدام الأمن داخل المناطق المحتلة، معطُّلةً الحياة الطبيعية والحركة الاقتصادية فيها، وقد شكل ذلك نقلة نوعية في العمل المقاوم الفلسطيني من حيث الأدوات ووسائل الاشتباك مع العدو.
وبملاحظة عمل المقاومة في تلك الفترة نرى انتهاجها تكتيكات «حرب المدن»، من خلال تنظيم تشكيلاتها المسلحة لعمليات صد الاعتداءات الإسرائيلية، وهي تقنية عسكرية من تقنيات الحرب الثورية، يستخدمها الطرف الأضعف ماديًّا لصد خصم قوي، عندما يجد أن المجابهة النظامية ليست من مصلحته، وأن مقاومة الخصم تتطلب اللجوء إلى الحيلة، والخداع، والمرونة، والحركة، ومناعة الأرض، وتعاون السكان، ومعرفة مسرح العمليات بشكل جيد، ولم يكن في مقدور المقاومة آن ذاك تحقيق انتصار عسكري، ولكنها وجهت ضربات سريعة لبعض النقاط الإستراتيجية لجيش الاحتلال، وأشغلته وأضعفت روحه المعنوية من خلال الحرب النفسية.
وفي صيف العام 2005، قام كيان الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء المستوطنات ومعسكرات الجيش من قطاع غزة و4 مستوطنات أخرى متفرقة شمالي الضفة الغربية. جاء ذلك بحسب الإعلان «الإسرائيلي» بعدما فشلت معركة «أيام الندم» – أيام الغضب وفق تسمية المقاومة – في تحقيق أهدافها، المتمثلة بمنع إطلاق القذائف من قطاع غزة على المستوطنات، وشكل ذلك فرصة للمقاومة لتطوير قدراتها العسكرية، وترتيب صفوفها، ومراكمة القوة والخبرة.
ووصولًا لشهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2008؛ إذ شن كيان الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا على قطاع غزة ضمن عملية أسماها: «الرصاص المصبوب» وأطلقت عليها المقاومة: «معركة الفرقان»، أدركت المقاومة بعدها ضرورة إعادة تشكيل قواعد الاشتباك مع الاحتلال، بما يمكِّنها من امتلاك أدوات قتالية قادرة على تحقيق الردع النسبي – بعدما حققت توازن الرعب – وبالتالي جعل مسألة «إعلان الحرب» في دوائر القرار لكيان الاحتلال الإسرائيلي أمرًا معقدًا وأكثر حساسيَّة، وفي هذا السياق، بدأت مرحلة «بناء القوَّة» التي تعتمد على مراكمة المجهود العسكري في المجالات كافة، استعدادًا لاشتباكٍ أوسع مع الاحتلال، بديلًا عن تكتيكات «مشاغلة العدو» التي تقوم على استمرار الاشتباك التكتيكي مع الاحتلال في جميع الساحات، دون إحداث التأثير المطلوب في الفعل المقاوم.
وفي هذه المرحلة لم تتناس فصائل المقاومة الفلسطينية استحالة مقارنة قدراتها بالقدرات العسكرية لكيان الاحتلال الإسرائيلي، فالمقارنة الفنية الصرفة ستكون غير منطقية مع التفوق العسكري الكبير لكيان الاحتلال، لكن المقاومة كانت قد ابتدعت أساليب وقدرات مكَّنتها من مجاراة قوة الكيان العسكرية، وتشكيل تهديد دائم على المستوى العسكري، على أساس عمليات استنزاف صبورة وبعيدة المدى.
في سياق هذه الإستراتيجية، استخدمت فصائل المقاومة ما يُعرف بالنمط (الهجين) من العقيدة العسكرية، وهو الذي يجمع بين تنظيم القوات النظامية من حيث التشكيلات والضبط العسكري والهرمية القيادية، وأساليب حرب المدن التي دأبت عليها حركات المقاومة في العالم في مواجهة الجيوش النظامية، وهذا ما مكَّن المقاومة الفلسطينية من التوسع في عمليات الإعداد؛ الأمر الذي مكنها من تحقيق مفاجأة كبيرة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في نوفمبر (تشرين الثانيط) من عام 2012 بقصفها مدينة «تل أبيب» المُحتلة بقذيفة صاروخية مصنعة محليًّا بعد عدة ساعات من قيام جيش الاحتلال باغتيال أحمد الجعبري قائد أركان كتائب عز الدين القسام.
ومنح هذا النمط «الهجين» من العقيدة العسكرية، مرونة عالية لفصائل المقاومة في مواجهة كيان الاحتلال، وقد تبدَّى ذلك بشكلٍ خاصٍ خلال عدوان كيان الاحتلال على قطاع غزة عام 2014م؛ حيث واجهت قوات الاحتلال مقاومة شرسة ومؤثِّرة، حينما قامت بهجوم بري داخل قطاع غزة، وخسرت في حينه العشرات من جنودها، وسقط عدد من الجنود أسرى لدى كتائب الشهيد عز الدين القسام الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية «حماس».
وقد شكلت إنجازات المقاومة الفلسطينية في عدواني 2012م، و2014م أرضية صلبة لتعزيز الفهم المشترك بين فصائل العمل الوطني في قطاع غزة، بما يتيح التقارب في الفكر المقاوم والتكامل العسكري الميداني، ظهر ذلك بشكلٍ واضحٍ في إطلاق مشروع «مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار» عام 2018م، وهو حراك شعبي ثوري هدفه نقل أزمات قطاع غزة، التي تسبب بها الاحتلال لتنفجر في وجه جنوده على الحدود الفاصلة بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وزيادة الروح الثورية بحيث يشترك الكل الوطني في ساحة واحدة ضمن نهج المقاومة الشعبية، والتأكيد على تشبث الفلسطينيين بأرضهم المحتلة.
نتج عن هذا التواؤم في ساحة العمل الوطني تأسيس «الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة»، التي عُهد إليها تأمين الحراك الشعبي وحمايته من الاحتلال، ومع استمرار مسيرات العودة، نضجت مهام «الغرفة المشتركة» بشكلٍ أوسع، خاصةً في مجالي الدعم العسكري والتنسيق الإداري والاستخباري المشترك، الأمر الذي ساهم في نجاحها بتحييد جزء كبير من التباينات السياسية بين الفصائل المنضوية تحتها لصالح الوحدة في ميدان المقاومة؛ لقناعتهم بأن مواجهة الاحتلال والدفاع عن الأرض لا يحتملان هذا التباين، وباتت الصيغة المفضلة لفصائل المقاومة الفلسطينية أن تخوض مواجهتها مع كيان الاحتلال من خلال هذه الغرفة، بعيدًا عن المواجهة الفردية لكل فصيل على حدة، ومع مرور الوقت تطور عمل الغرفة؛ فباتت تصدر بيانات عسكرية باسمها هي، باستثناء بعض الحالات الخاصة، مما زاد الضغط على جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
وكانت المواجهة بين الفلسطينيين وكيان الاحتلال الإسرائيلي في الحادي عشر من مايو 2021 أبرز تطبيق عملي على وحدة العمل للغرفة المشتركة لفصائل المقاومة، حيث أعلنت الغرفة أنها أطلقت أكثر من 100 قذيفة صاروخية تجاه الداخل المحتل، في اليوم الأول من المواجهة، مطلقةً اسم معركة «سيف القدس» لعملياتها التي ردت بها على اعتداءات كيان الاحتلال الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى.
وكانت السمة الأبرز لهذه المواجهة: أن المقاومة الفلسطينية أفقدت الاحتلال عنصري المفاجأة والمبادرة، كما أحدثت هزة كبيرة في نظريته الأمنية، فتداعيات هذه الجولة شملت معظم عناصر النظرية الأمنية لكيان الاحتلال، كالردع، والحرب الاستباقية، والقتال في أرض «العدو»، والتنبؤ الإستراتيجي، وتماسك الجبهة الداخلية.
وقد استثمرت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة هذه الحالة من الوحدة العسكرية الميدانية في بناء إستراتيجية قتالية من خلال المناورات الميدانية «الركن الشديد 1 و2» والتي تهدف لتبادل الخبرات بين جميع فصائل المقاومة لتحقيق التجانس وتوحيد المفاهيم وسرعة تنفيذ المهام بكفاءة واقتدار؛ لرفع الكفاءة والجاهزية القتالية لفصائل المقاومة لمواجهة مختلف التحديات والتهديدات.
وترتكز إستراتيجية المقاومة على أربعة مقومات، أولاها الوحدة القيادية، والثانية إدارة وتطوير القدرة الميدانية حسب المتغيرات، والثالثة تعزيز الحاضنة الشعبية وضمان وقدرتها على تحمُّل عدوان الاحتلال، خصوصًا في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس، والرابعة ضمان دعم إقليمي ودولي شعبي ورسمي يُضعف قدرة الاحتلال على تحريض العالم ضد الشعب الفلسطيني وتبرير عدوانه عليه.
وقد أسس هذا التفكير الإستراتيجي للمقاومة لمرحلة جديدة وبمعادلات جديدة؛ خصوصًا ما يتعلق بالقدرة على اختراق العمق الأمني لكيان الاحتلال، بل خطوط دفاعه الجوية والميدانية والرادارات، ما يؤهل المرحلة القادمة لأي مواجهة أن تُحدِث تغييرات إستراتيجية ربما تكون متقدمة، لتشكل حالة التراكم الطبيعي لدحر الاحتلال وهزيمة المشروع الصهيوني.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست