«فلكي نُدْرِكَ حقيقة وجودنا في هذا العالم يَعْني أن نَسْتَسْلِمَ لله، وأن نَتَنَفَّسَ السلام، وألا يحملنا الوهم على تبديد جهودنا في الإحاطة بكلِّ شيء والتغلُّبِ عليه، علينا أن نَتَقَبَّلَ المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا، فالزمان والمكان قَدَرُ الله وإرادته، والتسليمُ لله هو الطريقُ الوحيد للخروجِ من ظروف الحياة المأساوية التي لا حلَّ لها ولا معنى، إنه طريق للخروج بدون تَمَرُّدٍ ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار، إنه شعور بطولي (لا أقول: شعور بطل) بل شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه وتَقَبَّلَ قَدَرَه». بيجوفيتش
نعم هذه هي= شعور إنسان عادي قام بأداء واجبه
قد غُرس في أذهاننا عبر مؤثرات شتى، أن تلك الحياة التي تُظهر استحقاقنا لكرامة الخلق والأمانة= يجب أن تكون ملحمية، تُكتب سيرتها على جدران التاريخ بحروف من نور، أو بسطور خطها ماء الذهب، بحسب ما تسعف به بلاغة الألفاظ ذاك الذي يحدثك عما ينبغي أن تكون عليه حياتك.
والحقيقة: أن هذا الكلام من أكثر ما يُقال فيُضر ويُفسد من حيث يحسب أصحابه أنه يصلح وينفع، وبسبب هذا الكلام أهدر الناس حياتهم، إما في طلب بطولة يظنون أن الحياة لا تستحق بدونها، وإما في القعود عن كل خير ليس هو البطولة التي لا تُستحق الحياة إلا بها.
ومما يدل على خلل هذا المفهوم و التباسه على النفس البشرية منذ القدم، ما جاء في الحديث النبوي أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا يا رسول الله ! لو كان هذا في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم:
«إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله».
انظر كيف صحح النبي صلى الله عليه وسلم المفهوم لدى صحابته رضي الله عنهم أن سبيل الله ليس محصورًا في الخروج للقتال فقط، ولا في سبيل واحد، بل هو واسع وشامل بسعة هذا الدين العظيم وشموليته.
نعم إنها هي أيضًا= إنسان عادي قام بأداء واجبه
من قال إن الأمة والأفراد مخاطبون و ملزمون بأن يكونوا على إيمان أبي بكر، وورع عمر، وإنفاق عثمان، وفقه علي، وتضحية وبذل حمزة رضي الله عنهم، نعم نحن مخاطبون بأن نتشبه بهم وأن نقتفي أثرهم ونتبع هداهم، وأن نسعى ونجتهد في تحصيل معالي الأمور في الإيمان والعلم والعمل مع اليقين بأنه لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغ ولا ارتقى إلى عظم مد أحدهم ولا نصيفه شعيرًا أخرجه في سبيل الله، لما وقر في قلوبهم من إيمان ويقين. فإنك ما انتظرت الكمال ستبقى ما حييت ولم تخط خطوة في مدارجه، فما عليك إلا أن تفعل ما في وسعك وتبذل ما في استطاعتك ولا يُقْعِدُك استحالة الكمال عن العمل.
وهذه ليست دعوة لترك الهم وعلو الهمة ومعالي الأمور، إلى اللامبالاة والانشغال بسفاسفها، لأن الإنسان لا بد وأن يكون له هم في هذه الحياة، إما همٌ أخروي أو دنيوي والأول أعظم وأبقى، أما اللامبالاة فهي لا تليق بالإنسان لأنها من صفات الحياة البهيمية.
يقول بيجوفيتش: بين الهم واللامبالاة، سأختار الهم.
الحقيقة أن الناس يسرفون في مدح زوال الهم، حتى يتمنوا حالة أشبه باللامبالاة و التبلد وعدم حمل الهم، بعض المخدرات تصل بك للحال نفسه، والحال: أنها تزيل الهموم مؤقتا لتقترب بمستهلكها بالفعل من حال الدواب.
والحق أنه لا يخلو صاحب العزيمة من أن يكون طالب آخرة أو طالب دنيا، ولا يخلو واحد منهما من الهم أبدًا، فمن استعاذ بالله من هم الدنيا، وجعل الآخرة أكبر همه، واستعان بالله ولم يعجز وتوكل عليه سبحانه كان أسعد الناس حقًا، وليس موضع سعادته أنه لا يهتم، وإنما موضع سعادته أنه يهتم لأمر آخرته وما يتصل بها من أمر دنياه، ثم ينزل همه بالله ويتوكل عليه ويستعين به، وما يكون في ذلك ومعه من المشقة هو في الواقع: ألم الطلب الذي لا تخلو منه الدنيا، والذي على قدر نفعه يكون جزاء الآخرة.
لذلك فالمتصالح مع ذاته والذي يعلم دوره وواجبه يشبه النهر الذي يستمر في صب باقي مياهه العذبة في البحر المالح على الرغم من علمه بأنه لن يحيله حلوًا، فهو يعلم أن مهمته تكمن في ري الأراضي التي يمر عليها، وليس في تحلية مياه البحر.
ببساطة: عرف مهمته وواجبه وأداهما كما ينبغي، ولو حاول فعل المزيد الذي لا يطيق وإبقاء ما تبقى من مياهه بدلاً من إهدارها في البحر لفاض وأغرق وأفسد من حيث أراد الحفظ والإصلاح، بل إن إهدار ما بقي من مياهه في البحر من واجبه حتى وإن لم يكن يرى له ثمرة أو يعلم له حكمة، وهذه حقيقة التسليم لله.
إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها، وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني، من قوة النفس في مواجهة محن الزمان، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود، من حقيقة التسليم لله، إنه استسلام لله، والاسم إسلام!
والحقيقة أن نفسي لم تهدأ وتستقر بين جنبتي، وتنضبط بوصلتي إلا بعد انكشاف هذه المعاني، واحتواها عقلي.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست