ملحوظة

(كل ما ورد في هذا المقال والمقالات التالية مشاهدات يومية يراها كل طبيب عيون في وطننا، بعضهم يتجاهلها، وبعضهم مثلي تؤلمه وتحزنه، كثير من عامة الناس لا يعرفون تلك الحقائق فقررت أن أنقلها بصراحة ليعلم جميعنا الحقيقة المرّة).

مرضى بلا وطن يداويهم!

كم يتكرر ذلك الموقف الثقيل كل يوم في عيادة المستشفى الحكومي؟! سئمت من هذا المشهد اليومي الذي يجب عليّ أن أتحمله وأغضّ الطرف عنه إنه مشهد المريض المُعوِز الذي ينتظر في نهاية الفحص أن أكتب له الدواء، ويتخيل لسذاجته أنني سأكتب له دواء مجانيًا يصرفه من المستشفى فيفاجأ أنني كتبت له دواء عليه أن يشتريه من الصيدلية بماله! فيطلب طلبه المعهود في سذاجة أكثر: اكتب لي دواء أصرفه من المستشفى يا دكتور، فيكون الجواب البدهي الصادم أن هذا العلاج غير متوافر هنا وعليك أن تشتريه بمالك! فينصرف المريض مهمومًا متسائلًا في ذهنه من أين سيأتي بثمن هذا الدواء؟!، بعضهم سيسائلني جهارًا بلا خجل: يا دكتور، كيف يكون هذا مستشفى حكوميًّا ولا يوجد به دواء؟! فيكون الرد المُفحم أن تتجاهل الردّ عليه وتتركه لنفسه علّه يجد الجواب المنطقي الصحيح!، وبعضهم سيفصح عن حاله البائسة صارخًا: يا دكتور، ليس معي مال! كيف سأشتري العلاج؟! ليس في جيبي إلا كذا وكذا! وبعضهم سيكشف عن حاله بالتورية فيقول: اكتب لي دواء من المستشفى، لأن عيني تستريح أكثر بعلاج المستشفى! والحقيقة الواخزة للقلوب أن جيبه هو الذي سيتريح! بل قد يكون المريض محتاجًا نظارة ولا يحتاج علاجًا دوائيًّا فلا ينسى أن ينصرف قبل أن يقول لك في خبث: اكتب لي أية قطرة من المستشفى تنفعني! وكأنه لا يهون على قلبه أن يخرج من المستشفى الحكومي دون أن ينتفع بثمن التذكرة التي حصل عليها ولو بأي شيء!

بعضهم سيكون أكثر جرأة حين يجدك طبيبًا طيّبا ويتوسم فيك الخير فيقول لك: أعطني شيئًا مما أعطاك الله! وكأنه في مخيّلته الطفولية قد أتى للمستشفى ليضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، هذا الحجر هو ثمن التذكرة الرمزي، وهذه العصافير هي: الفحص مجاني، والدواء مجاني، وصدقة يحصل عليها من الطبيب!

لا تتعجبوا يا إخوتي فإنه الفقر! وإن شئتم فاسمعوا قول علي بن أبي طالب:

بَلَوتُ صُروفَ الدَهرِ سِتينَ حُجَّةً … وَجَرَّبتُ حالَيهِ مِنَ العُسرِ وَاليُسرِ

فَلَم أَرَ بَعدَ الدِينِ خَيرًا مِنَ الغِنى … وَلَم أَرَ بَعدَ الكُفرِ شَرًّا مِنَ الفَقرِ

في العالم المتحضر تكفل الدولة علاج المواطنين وتوفر الدواء المجاني لهم، حيث تعدّ الصحة والدواء حقًا من حقوق البشر ينبغي توفيرها لجميع المواطنين بلا تفرقة ولا تمييز، هذا هو العالم المتحضر أما وطني الذي أمارس الطب فيه فلا يجد حرجًا أن يُحرم فيه الفقير من الدواء فيكفي أن توفر له الدولة الطبيب – غير المؤهل أحيانًا – والمستشفى – غير الآدمي أحيانًا كثيرة – بالمجّان، وهذا في ذاته منّة كبيرة وأيادٍ سابغة من الوطن فلا ينبغي للمواطن الطمّاع أن يطمح لأكثر من ذلك!

لا أنسى المرأة التي أتت مع ابنتها الصغيرة المصابة بكيس دهني في جفن عينها، كان يجب إزالته جراحيًا، ولأنه لا توجد بالمستشفى مستلزمات العملية كتبت للأم المستلزمات المتمثلة في مرهم موضعي وسرنجة ومشرط والمخدر الموضعي! لم تعقّب الأم على عدم توافر تلك الأشياء المفترض تواجدها في أي مكان يدعى مستشفى، وأحضرت لي المطلوب، جُهّزت الأدوات وحينما شرعت أستعدّ للعملية طلبت من الممرضة قفازين معقمين لأجري العملية متقفزًا لها ولكني فوجئت بأنه لا يوجد قفاز في العيادة! شعرت بالضيق داخلي وكذلك بضيق الأم إذا طلبتُ منها شراء قفازين الآن فقررت أن أخاطر بنفسي وأجري العملية بدون قفازين! ولكن المفاجآت لم تتوقف حين انتهيت من العملية وطلبت غطاء عين لأضعه على عين الطفلة فكان جواب الممرضة: لا يوجد يا دكتور! هنا اضطررت راغمًا أن أطلب من الأم أن تذهب لتشتري غطاء عين، ولكنها لم تستطع كظم غيظها حينها حتى انفجرت تُُسائلني: أولا يوجد أي شيء في هذا المستشفى؟! فأجبتها باسمًا: لا يوجد في هذا المستشفى ولا في أي مستشفى آخر في هذا البلد!

ذات يوم جاءتني مريضة عجوز مع ابنتها تشتكي ضعف نظرها، وكانت تظنّ أنها تحتاج نظارة فحسب ولكن بالفحص تبين أنها مصابة باعتلال سكري بشبكية العين وحالة عينها سيئة وتحتاج أشعة لتقرير خطة العلاج، فكان أول سؤال تسأله لي ابنتها: (هل هذه الأشعة غالية الثمن؟) فأجبتها: (إنها تتكلف قريبًا من 700 جنيه)، فأجابتني الابنة بلا تردد: (لا لا يا دكتور، لن نقوم بهذه الأشعة سنكتفي بالنظارة!) فأخبرتها أن حالة عين أمها خطرة ولا بد من الأشعة لإنقاذ عينها، فأجابت: (ليس معنا مال لكل هذه النفقات)، فقلت لها: (يمكنك أن تذهبي للمستشفى الجامعي لإجراء الأشعة على نفقة الدولة)، فازدادت صدمة الابنة وكأن صاعقة الزمهرير قد سقطت فوق رأسها! وقالت: (لا لا يا دكتور نفقة الدولة لا) – طبعًا خشيتِ الإجراءات الطويلة والمذلّة التي سئمت منها عن تجارب سابقة! – وإذا الأم العليلة المسكينة تنطق كلمة ذُهلتُ من شدة وقعها على قلبي قالت: (عيني التي لا أرى بها يا دكتور ضاعت خلاص وسأكتفي بالعين السليمة الأخرى!) وانصرفت المرأة وابنتها ولم أرهما مرة ثانية حيث انطلقا إلى المجهول!

المجهول هو الطريق الذي يرسمه لك وطنك حين يتخلى عنك! ذلك الطريق الأسود الذي ستلازمه ما دمتَ تعيش في هذه الأرض القاحلة، تلك الأرض التي تمنّ عليك أنها آوتك وتستكثر عليك أي شيء أكثر من ذلك!، ويا للأسف! قد لا يدرك كل منا تلك الحقيقة إلا عندما تصيبه لعنة ذلك الوطن الخبيث!

لن أنسى تلك الفتاة الجامعية المصابة بذلك المرض النادر (التصلبي التعددي) التي كُتب عليها أن تعيش على العلاج  سنوات طويلة، ولأنه علاج مكلف جدًا ولا تستطيع أسرة فقيرة توفيره لابنتهم قرة عينهم قررت الفتاة أن تخوض الإجراءات الطويلة العقيمة للحصول على العلاج من التأمين الصحيّ. أتدرون ما الثمن الذي دفعته تلك الفتاة لاستمرار علاجها؟ الثمن كان مكثها في الجامعة عشر سنوات كاملة تتعمد الرسوب حتى لا تتخرج فتخرج من التأمين الصحي الذي لا يشمل المتخرجين في الجامعة! بعد تلك السنوات العشر قررت الفتاة أن تتخرج مثل بقية قريناتها لتضحي بعلاجها وحياتها لتعيش لحظة التخرج التي حرمها منها وطنُها ولتسلك حياتها طريق المجهول كما سلكه السابقون من قبلها!

أخيرا أيها الفقير في هذا الوطن إن كانت لك دعوة مستجابة فادع الله ألا يبتليك في صحتك أو صحة أولادك؛ فلن تجد حينها معينًا ولا نصيرًا بل ستجد وقتها القسوة والمذلّة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد