منذ وقوع انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر ونحن نسمع مفردات من عينة: الانقلاب يترنح، الاقتصاد يترنح، مصر مقبلة على انهيار اقتصادي، مصر قاربت على الإفلاس، سيناريو اليونان وقبرص يقترب من مصر، ونسمع غيرها من الكلمات الحماسية والمبالغ فيها من وجهة نظر اقتصاديين محايدين والتي لا تستند إلى أرقام وحقائق وواقع.
وبهذه الكلمات عاش قطاع كبير من المصريين واقعا مليئا بالوهم والخيال وعدم الواقعية، بل إن بعضًا ممن يُطلق عليهم خبراء ومحللين حاول أن يخدر المصريين عن طريق إطلاق تحليلات وتوقعات من عينة أن الانقلاب العسكري في مصر سيسقط قريبا ومن بوابة الاقتصاد، وأن ثورة جياع قادمة وفي الطريق وستأكل الأخضر واليابس، وفي المقابل راح البعض الآخر يرسم سيناريوهات لمستقبل الاقتصاد المصري وأحوال المواطن المعيشية عقب إفلاس البلاد القريب وانهيار الاقتصاد الوشيك وفشل العسكر في ملء بطون ملايين الفقراء وإيجاد فرص عمل لملايين الشباب العاطل عن العمل وكبح جماح الأسعار.
وللأسف صحا المصريون على واقع يقول لا الاقتصاد انهار ولا ثورة جياع قامت، وهو ما سبب إحباطًا شديدًا لديهم انعكس على حماسهم للمظاهرات السلمية وبدأ بعضهم يبحث عن بدائل أخرى لإسقاط الانقلاب.
الصورة ليست بهذه السطحية التي يتصورها البعض ويحاول أن ينشرها بين الناس إذا ما تحدثنا عن حال الاقتصاد المصري في مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري، أو تحدثنا عن سر عدم ثورة المصريين على النظام الحاكم خاصة عقب الضربات العنيفة التي تعرضوا لها جراء الإجراءات التقشفية التي طبقتها الحكومة منذ يوليو 2014 والتي نجم عنها خفضٌ كبير في الدعم المخصص في موازنة العام المالي الجارى 2014-2015 بقيمة تزيد عن 52 مليار جنيه، أو تحدثنا عن اقتصاد يقوم نصفه على الاقتصاد غير الرسمي أو الموازي.
إذا لم تكن المسألة بهذه السذاجة فإن السؤال الذي يطرحه كثيرون هو: ما هو إذن مصير الاقتصاد المصري في ظل الانقلاب العسكري؟
وهل يمكن أن يسقط الاقتصاد في حال استمرار الحراك السلمي بالشارع والمظاهرات المؤيدة للشرعية وللرئيس المنتخب محمد مرسي؟
وهل هناك ثورة جياع في الطريق؟
والأهم من ذلك لماذا لم يثر المصريون على واقعهم الاقتصادي والاجتماعي المرير الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وتدهور بشدة عقب قيام ثورة 25 يناير 2011 والإطاحة بنظام مبارك؟
وحتى نقدم صورة صحيحة لحال الاقتصاد المصري تعالوا نرسم سيناريوهات لهذا الاقتصاد في المستقبل القريب وليكن في العام 2015 حتى نستطيع الإجابة على الأسئلة السابقة وما إذا كان الانقلاب يمكن أن يسقط بالاقتصاد أم لا.
إذا ما تأملنا الممارسات التي يقوم بها النظام الحالي فيما يتعلق بمعالجته للقضايا السياسية والأمنية وحتى الاجتماعية والاقتصادية ونستقرأ الأرقام الناتجة عنها، يمكن القول إننا أمام 3 سيناريوهات للاقتصاد المصري في العام الجديد 2015.
الأول: تحسن الاقتصاد المصري ببطء شديد.
الثاني: تدهور الاقتصاد المصري بشكل سريع.
الثالث: استمرار حال الاقتصاد المصري على ما هو عليه.
وبالطبع فإن تحقق أي من السيناريوهات الثلاثة في حاجة إلى معطيات على الأرض يمكن في حال تحققها حدوث سيناريو محدد، وحتى لا يكون الكلام مرسلا تعالوا نناقش معطيات كل سيناريو.
السيناريو الأول
يصب هذا السيناريو تجاه تحسن الاقتصاد المصري وعودته إلى التحسن البطيء أو معدلات النمو المرتفعة والمؤشرات الإيجابية التي شهدتها مصر قبل ثورة 25 يناير والتي يمكن أن تولد فرص عمل حقيقية وتحد من مشكلة البطالة المتفاقمة والتي يبلغ معدلها 25% بين الشباب حسب تصريحات رسمية، ويحد كذلك من مشكلات الفقر البالغة نحو 40% طبقا لأرقام مؤسسات دولية ومنظمات مجتمع مدني مصرية.
ولتحقق هذا السيناريو فلا بد من تحقق عدة أمور على الواقع أبرزها:
1- توقف الحراك السلمي في الشارع وتراجع أعداد المتظاهرين، وهو ما يساعد النظام الحالي على الترويج لفكرة حدوث استقرار في البلاد خاصة بين الدول المانحة والمستثمرين الأجانب، كما تساعد هذه الخطوة النظام في إعادة السياحة لمعدلاتها الطبيعية في فترة ما قبل عام 2010 والتي كانت تدر على البلاد نحو 12 مليار دولار سنويًا، وهذا الرقم كفيل بسداد أقساط الديون الخارجية وكلفة الواردات للبلاد والبالغة نحو 6 مليار دولار شهريا.
2- نجاح مؤتمر المانحين المقرر عقده بمدينة شرم الشيخ منتصف شهر مارس القادم والذي تراهن عليه مصر في جذب استثمارات خارجية تقدر بنحو 12 مليار دولار ودخول مستثمرين عرب وأجانب جدد للسوق المصرية.
3- عودة الاستثمارات الأجنبية التي كانت تدر على الدولة أموالا تقدر بنحو 7 مليار دولار قبل ثورة 25 يناير 2011، وهذه مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للنظام المصري خاصة وأن هذه العودة في حاجة لخطوات، منها حدوث استقرار حقيقي وإقرار حزمة من التشريعات والقوانين من قبل برلمان منتخب تحمي حقوق المستثمرين.
4- نجاح مفاوضات مصر مع صندوق النقد الدولي والحصول على قرض حده الأدنى 4.9 مليار دولار والأقصى 10 مليار دولار، وهذا المبلغ كافٍ لتغطية الفجوة التمويلية التي تعاني منها مصر والمقدرة بنحو 12 مليار دولار، كما يفتح الباب أمام حصول مصر على قروض من مؤسسات مالية أخرى تقدر بنحو 10 مليار دولار خاصة من البنك الأفريقي للتنمية والبنك الإسلامي للتنمية والبنك الدولى والبنك الأوروبي.
5- عودة الاستقرار لسوق الصرف الأجنبي وهو ما يقضي على السوق السوداء التي تمثل ملفًا مزعجًا سواء للبنك المركزي المصري أو المستثمرين الأجانب أو التجار والمستوردين أو المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، علمًا بأن السوق السوداء تلعب دورًا مهمًا في رفع أسعار السلع بالأسواق.
6- تحسن موارد مصر من النقد الأجنبي خاصة من القطاعات الاقتصادية الرئيسية مثل السياحة والاستثمارات الخارجية وتحويلات المصريين العاملين في الخارج والصادرات الخارجية.
7- استمرار تراجع أسعار المشتقات النفطية من بنزين وسولار وغاز وغيره وهو ما يعطي متنفسا للموازنة العامة خاصة وأن مخصصات الوقود تبلغ نحو 100 مليار جنيه سنويا، كما تلعب هذه الخطوة دورًا مهمًا في تقليص عجز الموازنة العامة البالغ 253 مليار جنيه في العام المالي الأخير 2013-2014.
8- نجاح الحكومة في التعامل مع أخطر مشكلة تواجه البلاد وهى مشكلة الطاقة التي تؤثر سلبًا على المصانع والاستثمارات ومحطات توليد الكهرباء، والأهم تأثيرها السلبي على حياة المواطنين العاديين، بشرط ألا يكون حل المشكلة على حساب أمن مصر القومي أي لا يتم استيراد الغاز من إسرائيل عدو مصر التاريخي، وهذا يمكن تحقيقه عن طريق استيراد مصر الطاقة والغاز من دول عربية مثل قطر والجزائر، أو دول أخرى مثل روسيا وإيران.
9- استمرار تدفق المساعدات والمنح الخليجية التي تجاوزت 96 مليار جنيه أي ما يعادل 13.2 مليار دولار في العام المالي السابق 2013-2014.
10-إحراز الحكومة تقدما في ملفات جماهيرية فشلت الحكومات المتعاقبة في التعامل معها مثل ملف الفساد الذي يكلف مصر خسائر تقدر بنحو 37 مليار دولار سنويًا، وكذا ملفات رغيف الخبز والسلع التموينية والبطالة والفقر والبيروقراطية ومشاكل المحليات والمرور.
11- إعلان عدد من الشركات الكبرى وصناديق الاستثمار الدولية العودة لمصر وضخ مليارات الدولارات في السوق المصرية والاستحواذ على شركات كبرى، وهذا سيساهم في تنشيط سوق المال والبورصة والاستثمار المباشر.
السيناريو الثاني
وهذا السيناريو يعني تدهور الاقتصاد المصري. والتدهور هنا له عدة مراحل أخطرها التدهور بشكل سريع قد ينجم عنه ثورة جياع حقيقية، أو التدهور البطيء الذي يترتب عليه استمرار الضغوط المعيشية على المواطن وعدم قدرته على تلبية احتياجاته الرئيسية من مأكل ومشرب وعلاج، وذلك بسبب حدوث ارتفاعات قياسية في الأسعار، أو دخول الاقتصاد في حالة ركود تشابه تلك التي عاشتها مصر في الفترة من 1998 وحتى 2004، كما تشابه الحالة التي تمر بها اليونان وقبرص ودول بأمريكا اللاتينية.
وهذا السيناريو غير مستبعد ويمكن أن يحدث في حال حدوث المعطيات التالية:
1-عدم حدوث استقرار سياسي وأمني في البلاد وهو ما يعني استمرار تراجع موارد البلاد من النقد الأجنبي واستمرار اضطرابات سوق الصرف وتراجع الجنيه أمام الدولار وارتفاع الأسعار.
2-استمرار حالة عدم التيقن السياسي بالبلاد وعدم إجراء انتخابات برلمانية، وهو ما يعيد لأذهان المستثمرين والدول المانحة أجواء حالة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها مصر في عام 2010 وإبان الفترة التي سبقت الثورة المصرية مباشرة، وهذه الحالة تؤدي إلى زيادة المخاطر بالبلاد وهو ما يؤدي لإحجام المستثمرين عن ضخ استثمارات جديدة، أو سحب الاستثمارات القائمة خاصة بالبورصة.
3 -عدم إجراء انتخابات برلمانية أو تأجيلها وهو ما يعطي انطباعًا للخارج بعدم وجود جدية من قبل النظام الحاكم في إجراء إصلاح سياسي حقيقي، أو انطباعًا بوجود خلافات شديدة بين الطبقة الحاكمة نفسها، أو بين النظام الحاكم ورجال الأعمال القريبين منه، أو قد تحدث انتخابات ولكن تأتي ببرلمان غير متناغم يعيد رموز نظام حسني مبارك والحزب الوطني المنحل للحكم ويستبعد المعارضة الحقيقية.
وبالطبع فإن عودة رجالات مبارك للحكم خاصة رجال الأعمال منهم قد يعرض النظام الحالي لأزمة حقيقة وصدام مع الشارع، كما قد يؤدي لحدوث صدام بين هؤلاء الرجالات والنظام الحاكم على خلفية مطالبتهم بامتيازات مالية وسياسية وسداد الفاتورة التي قدموها سواء قبل الإعداد للانقلاب العسكري أو قبل الانتخابات الرئاسية.
4- استمرار فشل الحكومة في إدارة الملف الاقتصادي خاصة المتعلق بالخدمات الجماهيرية والأمور المعيشية مقابل استمرارها في التركيز على الملفين الأمني والسياسي كما جرى منذ الانقلاب.
5- استمرار الحكومة في سياسة مصادرة أموال وأصول المعارضين لها سياسيًا وعدم قصر المصادرة والتجميد على جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يعطي انطباعًا للمؤسسات المالية الدولية بعدم حماية الدولة للملكية والاستثمارات الخاصة، ومخالفة الدستور وعودة دولة مصادرة الأموال التي عاشتها مصر في فترة ستينات القرن الماضي.
6- عودة الإضرابات العمالية والمطالب الفئوية للشارع؛ وهي واحدة من أخطر المشاكل التي يمكن أن يواجهها النظام الحاكم، مع التذكير بأن اعتصامات عمال المحلة الكبرى كانت مقدمة لثورة 25 يناير.
7- استمرار الحكومة في تطبيق سياستها التقشفية خاصة المتعلقة برفع أسعار المشتقات النفطية ورغيف الخبز وأسعار المياه والكهرباء والمواصلات دون مراعاة الأبعاد الاجتماعية، وهو ما يزيد احتقان الشارع المحتقن أصلا بسبب غياب الحريات والقمع الأمني وانسداد الأفق السياسي.
8- زيادة الضرائب على المواطنين والمستثمرين وهو ما قد يزعجهم ويؤدي إلى العزوف عن ضخ استثمارات إضافية في السوق، خاصة مع حالة الركود التي تمر بها الأسواق منذ وقوع ثورة 25 يناير.
9- عجز الحكومة عن سداد ديونها والتزاماتها الخارجية سواء المتعلقة بدول نادي باريس أو دول أخرى منحت مصر قروضًا مساندة إبان فترة حكم الدكتور محمد مرسي مثل تركيا وقطر وليبيا أو ديونًا مستحقة لحائزي السندات الأمريكية.
10- تفاقم مشكلة الديون المحلية والخارجية والتي شهدت قفزة منذ وقوع الانقلاب في 3 يوليو 2013 حيث تجاوزت 2 تريليون جنيه أي 2000 مليار جنيه وما يقارب 96% من الناتج المحلي الإجمالي.
11- عدم وجود حل حكومي لمشكلة آلاف المصانع المغلقة والتي أدت إلى تشريد مئات الآلاف من العمال المصريين، وهذا الفشل المستمر في حل هذا الملف الاقتصادي المهم يعطي انطباعًا بعدم جدية النظام الحالي في حل مشاكل المستثمرين سواء المالية المرتبطة بالقطاع المصرفي، أو المرتبطة بجهات حكومية مثل الضرائب والجمارك والتأمينات والآثار وغيرها.
12- استمرار تراجع أسعار النفط وهو ما قد يدفع دول الخليج لوقف الدعم المالي السخي المقدم لمصر منذ الانقلاب والدخول في تطبيق مزيد من الإجراءات التقشفية لترشيد النفقات، وبالتالي التأثير على دخول المصريين العاملين داخل هذه الدول والذي يفوق عددهم المليوني مصري، وبالتالي التأثير سلبًا على تحويلاتهم من العملة الأجنبية للبلاد التي تقارب قيمتها نحو 20 مليار دولار سنويا، كما أن تراجع أسعار النفط يؤثر أيضا على السياحة العربية القادمة لمصر، كما يهدد الاستثمارات التي تتوقع الحكومة الإعلان عنها خلال مؤتمر المانحين المقرر عقده منتصف شهر مارس القادم، حيث تلقت مصر وعودًا من دول الخليج وجنوب شرق آسيا بالإعلان عن استثمارات ضخمة خلال المؤتمر الذي يعقد بشرم الشيخ.
13- استمرار تدهور الوضع السياسي بالمنطقة العربية خاصة في العراق وسوريا وليبيا وتجدد الحرب بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبالطبع فإن عدم حسم ملف تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من قبل قوات التحالف الدولي يعني زيادة المخاطر بالمنطقة، وهو ما يؤثر سلبًا على السياحة الخارجية والاستثمارات الأجنبية القادمة للمنطقة ومنها مصر، كما يغلق الأبواب والأسواق أمام العمالة المصرية بالخارج وبالتالي ارتفاع مؤشرات البطالة بأعلى مما هي عليه الآن.
14- استمرار تراجع احتياطي مصر من النقد الأجنبي وهو ما يفرض مزيدًا من الأعباء على صانع السياسة النقدية في مصر، حيث يغل يده عن محاولة إعادة الاستقرار لسوق الصرف المضطرب ووقف نزيف تراجع الجنيه المصري المستمر أمام الدولار وتلبية احتياجات المستوردين والتجار الدولارية، كما أن هذا التراجع قد يؤدي لخفض تصنيف مصر الائتماني ورفع كلفة الاقتراض الخارجي وتمويل الواردات.
السيناريو الثالث
هذا السيناريو يقوم على فرضية استمرار حال الاقتصاد المصري على ما هو عليه في العام 2015 وعدم اختلاف المشهد الاقتصادي في العام الجديد عن المشهد في العام 2014، وبالتالي يستبعد السيناريو تحسن الاقتصاد سواء على مستوى المؤشرات الكلية من معدلات نمو وتضخم وبطالة وفقر، أو على مستوى الأمور المعيشية للمواطنين، وهذا السيناريو يحدث حال عدم تحسن الوضع السياسي والأمني وعدم حدوث خلخلة في ملف المصالحة السياسية واستمرار الحراك الشعبي والمظاهرات الرافضة للانقلاب.
هذه 3 سيناريوهات تتعلق بحال الاقتصاد المصري في المستقبل القريب، وبالطبع فإن كل الاحتمالات مفتوحة، وإن كنت أميل إلى السيناريو الثالث لأنه لا يوجد في المستقبل المنظور ما يدعم تحقق السيناريوهين الأول والثاني.
لكن يبقى السؤال:
هل الحراك السلمي في الشارع المصري قادر على حسم ملف الاقتصاد والتأثير في اتجاهاته وتحركاته المستقبلية؟
في تقديري فإن الحراك عامل مهم في تحديد تحركات الاقتصاد، لكنه ليس العامل الوحيد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست