في عصور الجاهلية الأولى كان الناس يعبدون الأصنام ظنًا منهم أنها الرب والإله المنعم بالخير والبركة، الممسك بمفاتيح الرزق، فلا تتجاوز أحلامهم القاصرة ذاك الجماد المتسمر في الأرض، المنحوت من الحجر، الذي لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا، ولا يستطيع أن يدفع عنها عسف الريح أو جور الصحراء بطقسها المتطرف.
كان الإنسان الساذج الفكر مقتنعًا أن هذا الصنم هو الملجأ الحقيقي له عند اشتداد الهم ونزول الغم؛ فيتوسل إليه ويتضرع له بالعون والرحمة. أما عن الآخرة فكان هذا الإنسان المسكين ينظر إلى التمثال الحجري نظرة إله القيامة الذي ستعرض عليه الخلائق، ويدخلها الجنة إذا ما أخلصت عبادته وتبركت به وسألته العفو والمغفرة والنجاة من النار.
عاش الإنسان المتعب على هذا الحال من التخبط والتيه سنين طويلة حتى جاءت الرسالات السماوية والرسل بالبينات إلى أقوامهم لتخرجهم من عبادة الحجر إلى عبادة رب الأرض والسماوات، إلا أن الإنسان بجحوده وكبره أعرض وتمرد ورفع سيف الشرك والكفر في وجه رسل الله، وتشبث بعبادة الحجر وجعل منه أسماء ومراتبَ ومكاناتٍ، بل وجعل من بعض الحيوانات والبهائم آلهة يرنو إليها بالقداسة والعفة والتسبيح. فعبدت بعض الديانات البقر، وقدست مذاهب أخرى الثعابين، وجعلت جماعات ثالثة من الحمير آلهة، وسجدت أقوام رابعة للفأر، وهكذا تفرع عن الحجر مئات المنحوتات والمعبودات التي يرى ناحتوها أنها الإله الفرد الصمد.
أرسل الله تعالى مئات من الرسل والأنبياء وأيدهم بالمعجزات وخوارق العادات ليقيموا الحجة على عابدي الحجارة التي لخصها نبي الله ابراهيم عليه السلام بسؤاله لأبيه: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا (مريم 42) ، ومع ذلك رفض عابدو الحجارة وناحتوها رسالات ربهم وأعرضوا عن سبيله، وقالوا مستهزئين ومستنكرين: بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (البقرة 170).
برهة تفكير وتأمل كانت كفيلة بحل جذور الصراع، وتجنب ألوان العذاب التي حاقت بالكفار والمستكبرين والمشركين، وحقن سيول الدماء التي سالت في معارك الأوثان الخاسرة، والتي انتهت بتحطم الصنم، وأفول عابديه وناحتيه.
لكن الصنم الذي حطمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، عاد إلينا بأوجه عديدة وأشكال كثيرة، ودخل ديار وقلوب الكثير من أبناء أمتنا الذين يهرعون إلى الساحات العامة والمتاحف الوطنية ليتبركوا بسيادته، ويلتمسوا منه العفو والرجاء! وهنا سؤال جوهري: هل يعرف الحمير كيف جاء الصنم إلى هذه الساحة العظيمة؟ ومن الذي نحته ونصبه ليعبده الحمير ومن سار على دربهم في النهيق؟ وهل يعرف الحمير من الذي يمنع الصنم من السقوط؟ أعتقد أن الكثير من التساؤلات هذه لا تستطيع الحمير الإجابة عنها! لا لأنها بعيدة عن الواقع وإنما لأنها قبلت حياة الذل والخضوع والعبودية!
لو سألت الحمار: لماذا تقبل أن تجر عربة محملة بأطنان المتاع ولا ترفع صوتك بالنهيق، لبرر لك ذلك بأن صاحب الحظيرة لديه الكثير من الحمير في الإسطبل، وأنه الأوفر حظًا والأكثر دلالًا من غيره! ولو سألت حمارًا ثانيًا من نفس الفصيلة: لماذا تقبل على نفسك أن تسحب عربتين مع أن قانون الحظيرة يسمح لك أن تجر عربة واحدة، وتوفر على نفسك الكثير من العنت والشقاء، سيقول لك إن الصنم الذي يدير حظيرتنا يمنحنا الدفء في الشتاء، ويقدم لنا العلف والماء، وأخشى أن تزول هذه النعم إذا ما تجرأت على النهيق ولو بلطف! جرب نفسك أن تسأل حمارًا صغيرًا هذه المرة عن سبب خروجه للعمل في عمر «الحضانة الإسطبلية» لحراثة الأرض مع أنه لا يقوى على جر المحراث، سيخبرك أن الحمار الوطني الذي يدير «جمعية الرفق بالحمير» قد صنع له الصنم عربة فاخرة، ولم يعد يقاتل من أجل حياة كريمة للقطيع!
بالضبط هذا ما يحدث في واقعنا المعاصر، يبني الكثير من السياسيين والزعماء العرب أمجادهم وشهرتهم وجبروتهم على شكل صنم أو تمثال جميل ينحتونه لأنفسهم ليراهم العامة في حلهم وترحالهم، ثم يوظفون جوقة من المأجورين والمرتزقة والفاسدين لنقل هذا التمثال إلى قلب وعقل كل مواطن بكثير من الرهبة والقداسة الكاذبة! وسرعان ما تلتقط الحمير الفكرة، وتعتنق الرمز والصنم الجديد، وتتبرك به وتطوف حوله تسبيحًا وتلبيةً.
لو أعدت السؤال على الحمار مرة أخرى: هل تمارس حقك في هز الذيل عند الحاجة؟! بالطبع الحمار لا يملك هذا الحق، ولا يملك أيضًا الحق في التصرف في ذيله حتى عند أداء الوظائف البيولوجية! لكن قد يكون هذا التساؤل محط استخفاف وتندر البعض كون أن الذيل هو جزء من الكل، أي جزء من الحمار المسكين الذي قبل على نفسه حياة الهوان والتعاسة! بالفعل هذا ما تعيشه الكثير من النخب السياسية التي أضحت أفكارها الأيدولوجية ومواقفها السياسية وانحيازاتها الوطنية لا تخرج عن إرادة الدولة ووجهة الرئيس الرمز قلامة، وتطوع معظمهم للتطبيل والضرب على دفوف أنظمة الفساد والاستبداد.
طبعًا الصنم لا يتحدث إلا للحمير وإلا لن يبقى في الوجود يومًا واحدًا؛ فالحمير فقط هي التي تؤمن بالأحجار وتنحني لها بالعبادة. أما الأسود فلا يقبلون العيش في أكفان الذل، وتعاف أنفسهم الكريمة أن تأكل بقايا الموائد واللحوم المنتنة! وبالمنطق هذا يسعى الصنم دائمًا لبناء شعب من الحمير، وتكوين جيشه من نفس الفصيلة، ويقضي على المتعلمين والوطنيين الحقيقيين لتوطيد دعائم حكمه وسلطانه واستبداده!
في المناسبات الوطنية، تحلق أسراب الطائرات في سماء الوطن والجماهير تحتشد بالملايين في الساحات لمشاهدة نسور الوطن وهي تحلق في سمائه، لكن سرعان ما نكتشف أن الطائرات مستأجرة من أحد شركات الطيران الدولية وهنا الصدمة الأولى! أين تذهب خزينة الوطن ومقدراته؟ أين ذهب نفط الوطن وعائداته الفلكية؟ تراقب الحشود أسراب الطائرات مرة ثانية وإذا بالطائرات يقودها قبطانٌ أمريكيٌ أو فرنسيٌ أو بريطانيٌ وهنا صدمة ثانية! أين ذهبت كوادر الوطن وخبرائه؟ أهم نازحون في بلاد الغربة أم أن الوطن لم يشب عن طوق التبعية بعد؟ تمعن بالنظر إلى طائرات الوطن العزيز، ثم تسأل نفسك سؤال مهمًا: إلى أي عصرٍ تنتمي هذه الطائرات؟ هل نحن حقًا دولًا فقيرة لا نستطيع شراء الطائرات النفاثة والمتطورة؟ لماذا نقتني أجيالًا من الطائرات تقادم عليها الزمن؟ لماذا نشتري نفايات المصانع والبضاعة الخردة، ولا نفكر في التصنيع الذاتي؟
نطرح كلمات وشعارات فخمة وبراقة دون أن نعي في الواقع العملي ماهيتها وحقيقتها! فما معنى الوطن وأبناؤه يهاجرون منه في قوارب الموت إلى سجون اللاجئين؟! أي قيمة للاستقلال الوطني وبلادنا يدوسها المستعمرون من أسقاع العالم المختلفة، وأعلام العدو ترفرف في عواصمه؟! عن أي وحدة نتحدث والصراعات المذهبية والطائفية قوضت أركان الوطن، ودماء الأبرياء والضحايا تجري أنهارًا على ترابه! كيف نقبل معزوفة الامن القومي، والمواطن مسلوب الإرادة والحرية إما في السجن أو تحت الإقامة الجبرية!
لا شك أن الصنم لا ينزل علينا من السماء، ولم تفرضه قوة خارقة الإرادة، لكنه نتيجة حتمية لقطيع الحمير الذين هللوا فرحين ومستبشرين للمستبدين والطغاة، وقبلوا أن يعيشوا حياة الذل والمهانة! فالوطن الذي يسلب منك العزة والكرامة ليس وطنك الحقيقي ولو عاش عليه أجدادك آلاف السنين، والوطن الذي يقتلك ويضعك في غياهب السجون ليس وطنك مهما قدم لك المستبدون من شعارات زائفة وأوهام مصطنعة، والوطن الذي يسرق منك رغيف الخبز ليشبع اللصوص من جوعك وأمعائك الخاوية لا يستحق أن تقاتل من أجله! ولا أجد أدل على استعلاء الاستبداد وتطبيل المأجورين للصنم ولو أمر بحلبهم كل صباح ومساء مما قاله الشاعر الدكتور شاكر الخوري يوم تناهى إلى سمعه أن لجنة التحكيم قد رفضت قصيدته، وقبلت قصائد شعراء مغمورين لا يجيدون صياغة الوزن والقافية، فأنشد قائلا:
قد كان في فحص شعري … كرٌّ وجحش وعير
لو أن شعري شَعيرٌ … لاستطيبته الحميرُ
لكن شعري شَعورٌ … وهل للحمير شعورُ!؟
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
أفكار