إنه لأمر يصعب على التصديق أن ترى الشعب متى تم خضوعه، يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد يسلبه القدرة على الاستيقاظ لاستردادها، ويجعله يُسرع إلى الخدمة صراحةً وطواعيةً، حتى يُهيّأ لمن يراه أنه لم يخسر حريته بل كسب عبوديته.

إن الناس يسهل تحوّلهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين، هؤلاء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية فتشرئب له أعناقهم، ويسيل له لعابهم، وما  يدرون أنه ما هو إلا نار لن تتوانى عن إهلاكهم.

تحت وطأة هذا الطغيان تهدر قيمة الإنسان؛ فيفقد إنسانيته وكرامته وقدسيته والاحترام الجدير به، فتُراك تلقى جيشًا جرارًا من العبيد مكبلين لا بأغلال الحديد، وإنما بأغلال الخوف والرهبة من السلطان، وقد انطمست أعينهم وهزلت صحتهم فلا يملكون إقدامًا ولا يستطيعون مقاومة، ويحدث أن تفسح الطبيعة أمامهم سبل التحرر، فيلفظونها وينفرون منها فرارهم من أبشع أنواع الوحوش.

كيف ينشأ العبيد؟!

يحكى أن ليكورج «مشرّع إسبرطة» قد ربّى كلبين خرجا من بطن واحد ورضعا الثدي ذاته، فجعل يُسمّن أحدهما في المطابخ، وترك الآخر يجري في الحقول وراء أبواق الصيد، فلما أراد أن يبين لشعب لاسيدومونيا أن الناس هي ما تصنع بهم تربيتهم، جاء بالكلبين وسط السوق، ووضع بينهما حساء وأرنبًا، فإذا أحدهما يجري وراء الطبق والآخر وراء الأرنب.

لقد انحدرت العبودية إلى هؤلاء، لا في أصلاب آبائهم وأجدادهم – رقيق الأرض السابقين- فحسب، ولكن أيضًا في ثنايا الترويض التربوي والنظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يفترض وجود سادة وعبيد.

إن بعض الأسود والنسور لا تقبل التناسل في الأسر أو داخل قضبان الحديد، ولكن الطبيعة البشرية تقبل ما ترفضه هذه الكائنات! بل الأغرب أن هؤلاء، رغم كل ما يكابدون من ويلات الطاغية، إلا أنهم لا يتهمونه أبدًا بما يقاسونه، ففي الأمس القريب رأينا أن شعبًا قد ثار على طاغيته وأسقطوه وسجنوه وكبّلوه بالحديد، فلما قادوه إلى السجن إذا بالسجان يبقى على عبوديته، والملك المسجون يبقى على ملكه.

هل معنى هذا أنه قُضي على الشعوب أن تظل في إسار العبودية أبد الدهر؟

العنف الثوري هو السبيل الوحيد كي يتخلص الشعب من عقد النقص والجبن التي غرسها في عروقه الاستبداد، لكن عليه أن يحزم أمره جيدًا ويعبر عن نفسه بلغة القوة، والقوة فقط، فمنذ اللحظة التي يبدأ فيها الشعب بتحدي الموت والظفر عليه، يكون قد قلب معادلة التسلط والرضوخ وانتصر على ذاته، مما يتيح له الانتصار على قوى القهر فيما بعد.

لا يعم استخدام القوة كل الشعب مباشرة، لا بد في  البداية من قلة تقود هذا العمل، وتتماهى الجماهير بهذه القلة متمثلة شيئًا من بطولتها، وجاعلة منها رموزًا للجماعة، ومن خلال عملية التماهي هذه تكسب الجماهير شيئًا فشيئًا من الثقة بالنفس والإمكانيات الذاتية، وتبرز لديها الحاجة إلى تجاوز استسلامها وشعورها بالعجز.

أول تحد سيواجه هذه القلة القائدة هو تعميم أسلوب المجابهة عند كل الناس، إذ هناك خطر لأن تظل منفردة في مواقع البطولة تستقطب الجماهير التي قد تظل على تبعيتها المزمنة، مع تغيير في التبعية، من متسلّط قديم إلى مُخلّص جديد.

المخيف في الأمر أيضًا أن الخضوع والتبعية هما ظاهرتان كليتان، وعلاجهما يجب أن يكون شموليًّا، بحيث يجب التنبه إلى كل مواطن مقاومة التغيير والتصدي لها بنفس طويل، وأشد المقاومة استعصاء على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها العبد، فالإنسان الطبيعي بطبيعته يخشى سوء العاقبة ما دامت لم تحدث بعد، أما وقد حدثت فإنه يطمئن إلى أنه لن يتعرض لما هو أسوأ منها، فكيف بالعبيد! وذلك ما اهتدى إليه ببداهة الفنان توفيق الحكيم في شهرزاد؛ إذ عندما يخشى العبد أن يقتله الملك، تسأله شهرزاد:

هل تعرف كيف يُقتل العبد؟

كيف؟

بتحريره؟!

 

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد