عندما يأتي الحديث عن الدين يأتي ذكر المحرمات والقيود التي يفرضها الدين بداعي إصلاح حياة الفرد وتقويمها، ولكن لفهم أفضل للتحريم في الإسلام يجب أن نعي فلسفته جيدًا، لست بصدد إثبات وجوب تحريم أمر أو آخر، بل بصدد تحليل فلسفة التحريم فقط.

في البدء أرى أن أفضل تشبيه للتحريم في الإسلام هو تشبيه “الأبواب المتتالية”، تخيل معي خمس أبواب متتالية، الباب الخامس فقط يحجز خلفه وحشًا مفترسًا، هل ستتعرض لأذى إذا دخلت الباب الأول؟ لا فليس هناك وراء الباب الأول شيء، الأبواب من الأول إلى الرابع وراءها فراغ، فقط الخامس وراءه الوحش المفترس.

ولكن ستجد ورقة تحذيرية معلقة على الباب الأول مكتوب عليها “لا تقربوا الباب”، أي باب؟ هل المقصود هو الخامس أم الأول؟ هنا تظهر فلسفة التحريم الإسلامي جلية.

يقول الله تعالى: “وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا” (الإسراء 32). معنى لا تقربوا في الأية هو مقاربة ومخالطة أسبابه ودواعيه.

وفي آية أخري في تحريم الخمر والميسر”القمار”، يقول الله:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا”.

للخمر والقمار منافع، والخمر خاصة ولكن إذا انضبط لدرجة لا يستطيع إنسان الوصول لها، ولهذا تم تحريمه.

بعبارات أبسط لقد وضعت الآيات الزنا والخمر والميسر موضع الوحش المفترس وراء الباب الخامس، ووضعت ورقة معلقة على الباب الأول أنه ممنوع الاقتراب من هذا الباب.

وهذا سيفتح الباب لتحريم أمور عديدة مثل الاختلاط ومثل علاقة الحب قبل الزواج ومثل أمور عديدة يرفضها المتدينون المحافظون بداعي أنها هي الأبواب الأربعة الأولى في قضية الزنا.

الإسلام دين واقعي لا يعيش في رومانسية خيالية، هو يعلم أن عموم البشر تسوقهم دوافع عديدة مثل الشهوة ولهذا ستجد فلسفة التحريم دائمًا هي غلق الأبواب وعدم تركها “مواربة”. أنت هنا لا تتحدث مع شخص واحد بل تتحدث مع ملايين ومليارات، ستحدث فوضى عارمة إذا تركت هذه الأبواب مفتوحة، الناس تقتحم الأبواب وهي موصدة، فما بالك إذا تُركت مفتوحة؟

أختلف اختلافًا جذريًا مع المحافظين المتدينين ممن يرفضون الإختلاط بداعي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولكني مع هذا مقتنع أن الإسلام لا يستطيع أن يقول سوى هذا، يجب على الدين الواقعي أن يغلق أبوابًا كثيرة قد تؤدي لفساد البشر، بالتأكيد سيتفلتون منها ولكن حينها ستجدهم يتفلتون في منطقة الأمان، خلف أول أربعة أبواب لا خامس باب.

الدين تفاعلي، بمعني أن به مناطق عديدة للحرية لا تقع في خانة الحرام ولكنها “قد” تؤدي للحرام، لن يدخلك الدين في مرحلة “قد” بالتأكيد فالبشر لا ينقصهم التحريض، وللأسف يظن كل شخص في نفسه القدرة على دخول هذه المنطقة والتمييز بين الخطأ والصواب ثم يجد نفسه وراء الباب الخامس دون أن يدري.

سأقول لك ما لن يقوله لك رجال الدين أبدًا وما لم يقله الدين صراحة، منطقة الأربعة أبواب في أمور عديدة ليست حرامًا، بل إنها أحيانًا هي الصواب.

لا أتخيل مجتمعًا يريد الابتعاد عن الانفلات الأخلاقي فيفصل الجنسين عن بعضهما ويجعلهما غريبين يران بعضهما من بعيد ويشعران باستغراب من وجود الآخر، وإذا حضر الآخر لا يقدره قدره ولا يحترمه، هذا تفكير خاطئ تمامًا يحسب أنه الصواب وسيجلب الكوارث نتيجة للكبت والمنع، فمن يرى أن منع الاختلاط أفضل من الاختلاط الذي يصاحبه وعي كل فرد بقيمة الآخر واحترامه يجب أن يعيد التفكير من جديد وليعلم أن مثل هذا الفكر هو من أسباب احتقار المرأة من جانب الرجال واستهجان المرأة للرجال واعتبارهم ظالمين لها، هذا لأنهم لم يفهموا قيمة كل منهم وكيفية احترام أنفسهم والأخر.

الاختلاط ليس حرامًا والحب بالتأكيد ليس حرامًا، ولكن رجال الدين سيثورون عليك ويقولون أنك تهدم الدين والمبادئ إذا قلت هذا لأنك بهذا تضع الناس في خطر أن يصلوا للخطيئة، وهم محقون ومخطئون في آن واحد.

هذا قد يؤدي للخطيئة فعلًا، ولكنه قد يؤدي لأمر عظيم أيضًا.

ما حل هذه المعضلة؟ درء المفاسد أم جلب المصالح؟ وهل نستطيع الحصول على المصالح ونجتب المفاسد في آن واحد؟

نعم أظن أن هذا ممكن جدًا إذا نظر الشخص للأمور بنظرة متصوفة زاهدة، نعم إذا نظر الناس للحياة بمنطلق تقدير الجمال ونبذ القبح، اذا استطعت توطين نفسك على هذا أظن أن بلوغ الباب الثالث أو الرابع سيكون مناسبًا لك، أما إذا لم تستطع فابق وراء الباب الأول فهو قد وُجد لمن تسوقهم شهواتهم وفقط.

هذا الحل قد يصلح لنسبة لا تتعدى 10% من البشر، ولهذا لم يقله الدين.

الناس كالسيل الجارف ولن تستطيع التحكم بتصرفاتهم إلا إذا خافوا من العقاب،لا تستطيع قياس ما المناسب لعموم البشر على أساس القلة صاحبة الضمير الحي والنزعة الصوفية التي تقدر الجمال، والدين يتحدث للعموم لا للخاصة، ولهذا يغلق الأبواب.

زيادة نسبة ال % هو أهم أهداف حركة التنوير من وجهة نظري، زيادة أعداد من يفكرون بهذا الشكل المتأنق الراقي هو الهدف وهو التنوير حقًا، ولكن هذا الأمر يستحق مقالًا منفصلًا، فإلى المقال القادم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد