يقولون إن السجون في الدول المتقدمة من طراز خمس نجوم، وفي بلادنا تكون سجون علية القوم مثلها لتخفيف وطأة الحبس عليهم، ومع ذلك يتعجل المسجونون – حتى المشردين منهم – الخروج من السجن، ليس لتبييض صورتهم أمام المجتمع، بل لأن هناك ما هو أغلى خارج أسوار السجن.

الحرية، غنوة الثائرين، وحلم المستعبدين والمسجونين
الحرية، صديقة العلم، وبنت العدل، وأم الإبداع
هي أغلى من الحياة،
وهل للحياة معنى بغير الحرية؟

الحرية والعلم.. اقتران لا ينفك‏

يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. [البقرة: 30-31].

فقصة استخلاف الإنسان تنبني على أمرين لا سبيل إلى الفصل بينهما؛ وهما الحرية والعلم. بدأت بأن شاء الله تعالى خلق آدم، وإعطائه الحرية أن يؤمن أو يكفر، يطيع أو يقترف المعاصي ويسفك الدماء، وهو ما أزعج الملائكة المجبولين على الطاعة العمياء، ولكن الأمر لم يقتصر على إعطاء الإنسان الحرية، بل تعداها إلى أن ميّزه سبحانه عن سائر مخلوقاته بأن علّمه ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 4-5].

والآيات الكريمة ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 8-9-10]، تشير إلى دور الحواس كأدوات في اكتساب العلم، ولكنها تشير أيضًا إلى العقل كأداة للهداية. فالحواس ليست إلا مصدرًا لجمع المعلومات، ولكن العقل هو القادر أن يفيد منها ويقرر على أساسها أي الطريقين يسلك.

بالرغم من ذلك فالإنسان لا يمكن أن يصل إلى معرفة كل شيء ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الإسراء: 85].

ورد عن السيد المسيح عليه السلام ﴿اعرفوا الحق، والحق يحرركم﴾. فالبداية هي طلب المعرفة، ومن الواضح أن أداتها هنا العقل وليس الحس أو الحدس، وبه نصل للحقيقة – غير المطلقة – والنتيجة أن ننال حريتنا.

البهائم العجماء على النقيض من الإنسان يمكن أن تكون حرة في البرية، لكنها ليست حرة بمعنى التخيير أن تؤمن أو تكفر، كما أنها ليست عاقلة، ليست قادرة على اكتساب العلم، وبالتالي لا قرارات تتخذها، ولا حساب عليها.

إن قضية الحساب الأخروي تبدو بديهية في ضوء هذين المفهومين المقترنين؛ الحرية والعلم. لا سبيل إلى تخيل وجاهته في حال اختفاء أحدهما من المشهد الإنساني؛ ولأجل هذا فالمجنون والصغير الذي لا يميز مرفوع عنهما القلم، وكذلك المستكره، الذي أتى فعلًا لم يكن حرًا في إتيانه، لولا إجباره عليه.

الحرية والعدل.. خطوات على الطريق

إن جاز أن يكون للحرية أب فهو العدل. العدل يُولِّد الحرية، والثورات وليدة نقص العدالة الاجتماعية، والتي كانت دائمًا وأبدًا ناقصة، ولكن شدة الضغط هي التي تولد الانفجار.

ولكن علماءنا لم يروا بأسًا أن يوجد مستبد عادل، وكأن العدل هو الميزة الوحيدة التي يحتاجها الإنسان لتكون حياته سعيدة، وكأننا بهائم نُعلف لا يهمنا سوى أن يكون مقدار ما يوضع أمامنا متساوٍ لنشعر بالرضا!، وكأنهم لم يقرأوا قوله تعالى في وصف حال المؤمنين ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ﴾ [الشورى: 38].

الحرية والاستبداد.. عداء لا ينقطع

يقول تعالى مخاطبًا رسوله الكريم: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية: 21-22]، وأعتقد أنها أوضح آية في كتاب الله تؤكد على حرية البشر في اختيار أي الطريقين الإيمان أو الكفر، فإن كان رسول الله لم يؤمر بالسيطرة والاستبداد علينا، فكيف يستحل غيره أن يفعل؟!

في المصباح المنير للرافعي: استبد بالأمر أي انفرد به من غير مشارك له فيه.

والاستبداد هو الانفراد بالتصرف في شأن الناس، ولو كان يمكن أن يؤدي إلى خير ما أمرنا ربنا بالشورى.

يظهر الاستبداد أقوى ما يمكن في الدين والسياسة، والحرية مع ذلك لا يمكن اختزالها في حرية العقيدة، كما أنه لا يمكن اختزالها في حرية إبداء الرأي.

عندما نقول أن حرية الرأي قد كفلها الدستور نحن نخطئ خطأ متكررًا بقدر ما نكرر تلك الكلمة. الحرية هي الهبة التي وهبهها الله تعالى لكل إنسان، أنا حرة منذ خلقني الله، بالتالي ليس لأي دكتاتور على ظهر الأرض أن يحجر على حريتي في التعبير ويصادرها. ولكن وكما يستبد بعض البشر ويتدخلون في حرية العقيدة لغيرهم، فهم يستبدون لمنعهم من التعبير عن آرائهم، ثم قد يستبدون أكثر بحرمانهم الحياة الحرة.

المستبد تزلزله كلمة، ويحاول أن يخرس أي صوت يعارضه حتى وإن كان غير مؤثر على استتباب ملكه؛ لذلك كان أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. إن محاولة المستبدين الدؤوبة لقمع الحرية هي أكبر دليل على قيمة الحرية. هذا القمع يتم التعبير عنه بوسائل مختلفة أقذرها ولا شك التعذيب؛ وليس إلا تخويفًا للأبرياء كي يكفوا عن المطالبة بحرياتهم.

إن محاولة المستبدين الدؤوبة لقمع الحرية هي أكبر دليل على قيمة الحرية

ولأجل هذا العداء بين الحرية والاستبداد فليس حرًا من يتحدث عن الحرية ويتلوك لسانه بها بينما يذعن للمستبدين ويخشى بطشهم. لم تكن الحرية يومًا كلمة. الحرية ممارسة تهون أمام السعادة بها كل ما يمكن أن يصيب الحر من أذى.

الحرية للإبداع.. ضرورة

إن جاز أن يكون للحرية أبناء، فألصق أبنائها بها، والذي يختص بها وتختص به؛ هو الإبداع.

العبد لا يبدع. والإبداع لا يمكن أن يكون في مناخ استبدادي. الاستبداد يُولِّد اللامبالاة لدى المواطنين ويحصر طاقة البشر العقلية في التفكير في أمور معيشية، كما أنه قد يُولِّد الخوف لدى المبدعين، والإنسان لا يُولِّد فكرًا إبداعيًا وهو خائف.

وفقًا لهرم ماسلو للحاجات، فإن الحاجات الفسيولوجية ثم الحاجة للأمن هي أهم الاحتياجات الإنسانية. يقول الله تعالى ممتنًا على قريش ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:4]، فكيف يبدع من انحصر فكره في البحث عن لقمة عيشه أو افتقد الأمان؟!

إن العقل كي يبدع لا بد أن يكون حرًا، لا يستشعر حدودًا ينبغي أن يتوقف عندها، وهو ما يتعذر تمامًا لو تخيلنا حال كاتب يكتب وهو ينتقي كلماته التي يعلم أن الرقيب سيرضى عنها ويُجيزها.

لأجل ذلك تكثر هجرة المثقفين والعلماء في عصور الظلام التي نحياها خارج بلادنا العربية، ولأجل ذلك كان العصر العباسي الأول هو العصر الذهبي للإسلام، الذي انتشرت فيه الترجمة وعرف المسلمون العلوم المختلفة، وبرعوا فيها، وهو ذاته العصر الذي اختلف فيه المسلمون فيما يعتنقونه من عقائد، وفي تقرير أحكامهم الفقهية، وتناظروا، وصنّفوا الكتب في ذلك، ثم عندما ضاقت رحابة الصدر أمام الاختلاف وخُنِقت الحريات فشا التقليد وكاد ينعدم الإبداع.

لا وجود لحرية مطلقة

الإنسان لا يحيا في عالم فارغ إلا منه، بل جميع ما يحيط به من بشر وظروف خارجية محيطة وحتى الماء والهواء يؤثر فيه؛ لأجل ذلك لا يوجد شيء يُدعى حرية مطلقة، طالما لا تنفك عن الإنسان الشروط التي تقيد قراراته، ولا تُترك له الحرية في اتخاذها كما يحلو له.

أنت حتى عندما تقود سيارتك تخضع لشروط وقواعد المرور التي وُضعت لمراعاة جميع أفراد المجتمع، فإن ادّعيت أنك حر حرية مطلقة أن تقود بالشكل الذي يحلو لك وتُعرِّض حياة الآخرين للخطر، فلعل تجربة السجن، الذي سيُوقَّع عليك كعقوبة، تجعلك تدرك معنى حريتك المطلقة التي تدّعيها.

بل إنه حتى دواخل الإنسان كعواطفه وانفعالاته ونحوها تؤثر في قراراته ولا تدعه حرًا في الاختيار دون مراعاتها.

ولعل أكثر مثال يُضرب على الحرية المطلقة، هو حرية الطيور في التحليق، والذي يُعتبر حلمًا طفوليًا لكثيرين. مع ذلك فالطير في السماء ليس حرًا حرية مطلقة، فعندما يكون عضوًا في سرب لا يمكنه ترك السرب والتحليق دونه، بل إن ظروف المناخ ذاتها تتحكم فيه وتجبره على ترك مكانه والهجرة إلى مكان آخر.

ومهما ادّعيت تفردك فأنت في النهاية جزء من مجتمع بشكل ما وبدرجة ما. لا يعني هذا أن على الفرد مسايرة المجتمع بحيث تضيع شخصيته فيه، بل يعني أنه مهما بلغت درجة مغايرتك لمجتمعك أو إعلانك التفرد فأنت في النهاية جزء من المجتمع البشري الأكبر، وتصرفاتك تجاه أفراد هذا االمجتمع تخضع لمراقبة؛ إلهية وبشرية. وطالما يوجد ما يجبرك وتخضع له فأنت لست حرًا حرية مطلقة.

في الحقيقة إن حرية الإنسان هي إطار عام يتصرف خلاله بعد أن حدّدته الظروف فيه، مثل ملعب كرة القدم الذي يحق للاعبين الجري وضرب الكرة فيه على ألّا يبرحوا سنتيمترًا واحدًا خارجه.

الحرية ليست عداءً للنظام والقوانين. ليست مضادة للمبادئ؛ فهي بهذا المعنى العبثي تخرج بالإنسان عن إنسانيته، بينما الحرية الحقيقية هي سبب رئيسي للشعور بالإنسانية، بالتالي لا تضاد الضوابط العادلة. ومرة أخرى الحق يحرركم.

وقد أخبرنا سبحانه وتعالى أن مشيئتنا لا تتم إلا إن شاء هو ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29]. ولا تعارض بين الإرادة الإلهية والحرية الإنسانية، فحرية الإنسان في إتيان أفعاله مثبتة، وإلا ما كان الحساب ثم الثواب أو العقاب.

وقد اختلف المسلمون من قديم حول حرية الإنسان؛ فقضية نفي الحرية الإنسانية بإزاء ادّعاء الحرية المطلقة قضية قديمة، عُرفت باسم الجبر والاختيار، وارتبطت بها قضية خلق الشر تحديدًا ونسبة المعتزلة خلق أفعال العباد إليهم لتبرئة جناب الله من مسؤولية خلق الشر، وهي قضية معروفة لدارسي العقائد. ربما يكون لنا معها وقفة في مقال قريب.

الحرية مسؤولية

من أعاجيب زماننا أن يدّعي أنصار التحرر المعاصرون أن الإنسان حر حرية مطلقة، ومع ذلك فهو غير مؤاخذ على أفعاله أمام الله!

هذا التصور لا يتبناه الملاحدة فقط، بل وأصبح منتشرًا بين فئات كثيرة ممن يعيشون على هواهم باعتبار أن الله غفور رحيم، وسبق أن تحدثنا عنهم في مقال “مُرجئة آخر الزمان”.

وحقيقة الأمر أن العبودية ليست فقط انقياد لشخص أو لظروف خارجية، والإنسان الغارق في الملذات المستسلم لشهواته ليس حرًا بل هو عبد، وبمقدار غرقه فيها واستسلامه وانقياده لها تكون عبوديته. ولن يفلت من عبوديتها إلا بإخلاص عبوديته لله.

أما الملحدون، فمشكلتهم أنهم يرغبون في الانفكاك من السلطة الإلهية، والعقل الذي أعطاه الله للإنسان ليكون وسيلته إليه جعل منه الملحدون طريقًا لمناقضة وجود الله وإعلان تحررهم من عبوديته.

‏ما لا يدركه هؤلاء وأولئك أنك تكون حرًا كلما أخلصت العبودية لله. ‏وأن تكون حرًا يعني أن تكون مسؤولًا. مسؤولًا أمام الله، حرًا قويًا بإزاء أي شيء آخر، حتى عواطفك وغرائزك ونزعاتك، لا تُترك لها الفرصة لتستعبدك؛ فعبوديتك لله تحررك. وكلمة الحق عند سلطان جائر لن تصدر إلا من شخص أعلن أنه ‏عبد لله وحده لا يخشى غيره.

الحرية أغلى من الحياة

بالرغم من أن الحرية كمفهوم يعتبر ناقصًا في حق الحيوانات، فلا هي تعتقد ولا تبدي رأيًا ولا تتخذ قرارات تُحاسب عليها، إلّا أن المفهوم بمدلوله الحيوي ينطبق عليها. نسمع عن حيوانات تتغير فسيولوجيًا في الأسر حتى أنها قد تُعرِّض حياتها كأفراد للخطر بقلة ما تتناوله من طعام خاصة في أيام محبسها الأولى حتى تعتاده، وأحيانًا قد يتعرض النوع كله للخطر لندرة تزاوجها في الأسر، وكأنها تمتنع عن التناسل مثلما كان العبيد يفعلون قديمًا لأنهم يعلمون أن أبناءهم سيكونون عبيدًا مثلهم.

وإن كانت الحرية هامة لأي كائن حي، فهي أشد أهمية للإنسان. لا يشعر بسعادة إن فقدها مهما امتلك من متاع الدنيا؛ من أجل هذا كان ولا زال السجن من أشد العقوبات. لكن إن كانت العبودية والسجن هما شكلا التعبير السافر عن سحق الحرية، فهناك الكثير من الظروف التي تحيط الإنسان وتخنقه حتى لا يعود يشعر جانبها بحريته.

إن الحرية هي المعنى الحقيقي للحياة. والجندي الذي مات وهو يحرر أرضه، والثائر الذي مات دفاعًا عما يراه حقًا، ولا شك ماتا راضيين. ولو كانت الحياة مع الذل لها قيمة عند أصحاب النفوس الحرة ما ضحّوا بحياتهم لأجل أن يتحرروا.

ولعل أشهر الثائرين في تاريخ الإسلام هو الإمام الحسين بن علي، سيد شباب أهل الجنة، والذي يختلف المسلمون حول ثورته، إلى يومنا هذا، فالأحرار يرون أن ثورته كانت ضرورة. ضرورة لأصحاب النفوس الحرة ليتخذوه مثلًا أعلى عندما تظلم الدنيا ويستبد الفراعين، أما المذعنون للاستبداد فدائمًا وأبدًا، وفي كل عصر ومصر، ستظل أقصى أمانيهم أن يحافظوا على رؤوسهم فوق أجسادهم مهما لقوا من مذلة.

سلام على الأحرار، فلا إنسان غيرهم.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد