كما تحدثنا في المقال السابق أن مفهوم المعرفة لا يساوي مفهوم العلم، فالمعرفة مفهوم أهم وأوسع وأكثر شمولًا، ويمتد مفهوم المعرفة ليشمل المعرفة العلمية والمعرفة الغير علمية، فإذا كانت الطريقة المُتبَعَة في التفكير والاستنتاج مبنية على أساس التفكير المنطقي والعلمي السليم كانت المعرفة معرفة علمية، وإذا نظرنا إلى كلمة علم نجد أنها تُترجم من اللغة الإنجليزية Science والتي اشتقت من الكلمة اللاتينية Scire ومعناها يعرف الشيء أو يتعرف عليه، ويمتد مفهوم كلمة العلم ليشمل معنيين مختلفين:

 أولهما: معنًا واسعًا يرادف المعرفة، مثل قول الله سبحانه وتعالى: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا» ومعناه هنا أي زِدْني معرفةً، أيًا كان نوع هذه المعرفة سواء معرفة حسية أو علمية أو فلسفية وغيره، فمثلًا إذا سألك أحدهم قائلًا: «ماذا تعلم عن هذا الموضوع؟» أي ماذا تعرف عنه، فتقول: «أعلم كذا وكذا» أي أعرف.

وثانيهما: معنًا ضيقًا يتمثل في كلمة إنجليزية تُدعى Science وهو علم تجريبي، قائم على التجارب والخطأ ثم الصواب، مثل علم الأحياء مثلًا، وهو نوع من المعرفة الإنسانية المُنظمَة التي تهدف إلى التوصل إلى المفاهيم والقوانين التي تتحكم في الطبيعة وتوجه مساراتها المختلفة.

الفارق الفلسفي بين المعلومات والبيانات

كلمة المعرفة كلمة شمولية وواسعة وتحمل العديد من المعاني المختلفة، ولا تقتصر فقط على نوع معين من المعلومات، ولكن كلمة المعرفة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعدة كلمات أخرى منها: المعلومات، التعليم، البيانات. وثمّة فارق كبير بين الكلمات الثلاث السابقة، فكلمة المعلومات تعني المُخرجات التي تمَّ وضعها في إطار ونُسق منظم لتعطي مدلولًا معينًا عن فكرة ما، أو يُمكن أن تُعرف على أنها توليفة من البيانات تم إعادة صياغتها لتعطي معنًا مناسبًا له مدلول خاص، ولكن لها شرط أن يتم الأخذ بهذا التعريف، وهو أن المعلومات لابد أن تكون متناسقة ومتناسبة مع بعضها البعض لتعطي مدلولًا علميًا ذا طابع خاص.

وأما كلمة التعليم فهو فن تلقي المعلومات، ولابد أن يكون التعليم قائمًا على مبدأ التفكير العلمي السليم، ومن هُنا اتخذت الصين من أسلوب التفكير المنطقي وحل المشكلات منهجًا أساسيًا قائمًا على مبدأ المنطق والتفكير السليم الذي لا تخطئه نفس ولا تفوته مَـلـَـكـــة، ولذلك نجد أن الصين بها أكبر نسبة من العِمَــالة، والعنصر البشري لدى الصين ذو وفرة كبيرة بعد أن طبقت الصين هذا المبدأ في مدارسها لتنشئة الأطفال على سُبل التفكير السليم والتعليم الجيد.

ولكن كلمة البيانات تعني المعلومات في صورتها الخام والحقائق الأولية دون أي تعديل أو وضع إطار معين يجعلها ذات أهمية، فالبيانات هي نوع من المعرفة، ولكن في صورة أولية دون أي تعديلات تجعلها تتحول بهذه التعديلات إلى معلومات. ويمكننا أن نفرق بين المعلومات والبيانات على أن البيانات هي معلومات ولكن في صورة بدائية أولية أو بمعنى آخر في صورتها الخام، وأيضًا البيانات هي الوسيلة التي نحصل بها على المعلومات، والبيانات تعتمد على المعرفة الحسية مثل معرفة لون شيء معين أو تذوق طعم معين، فإن مخرجات عملية الشعور بالحواس هي بيانات.

على سبيل المثال إذا سجلت هيئة الأرصاد الجويّة درجات حرارة ليوم ما فهذه هي بيانات، ولكن إذا طلبها الجمهور والفئات المختلفة من المجتمع فيحب على هيئة الأرصاد الجويّة إعادة صياغة هذه البيانات في صورة معلومات تُقال أو تُكتب في تقرير ما واحدة تلو الأخرى، وإذا استخدمت هيئة الأرصاد الجويّة عدة طرائق مختلفة لقياس درجة حرارة الجو، وتستخدم طريقة أو أخرى على حسب الأسرع والأدق والأفضل فهذه هي المعرفة لأنها اعتمدت على الخبرة في الأمر، وهذا هو الفارق بين المعلومات والبيانات والمعرفة.

أنــواع الـمـعــــــارف الإنـســـانـيــــــة

تختلف أنواع المعارف ويتم تصنيفها على أساس عدة عوامل منها النوع العام أو الجزء المستخدم من الحواس الشخصية وغيرها، ولكن من أبرز أنواع المعارف الإنسانية:

أولًا: المعرفة الحسية وهي النوع الذي نستخدم فيه حواسنا في التعرف عليها وإدراكها، أي هي ما تراه العين، وتلمسه اليد، وتشمه الأنف، دون أن ننظر ونتفحص في كيفية حدوثها والأسباب التي حدثت من أجله، أي بدون معرفة الأسباب.

ثانيًا: المعرفة التأملية وهي نوع مهم من أنواع المعرفة الفلسفية التي تعتمد على الفِكر والتدبّر في أحوال شيء ما، مثل أن تتدبّر عجائب قدرة الله في خلقه لهذا الكون الشاسع.

ثالثًا: المعرفة العلمية وهي نوع من أنواع المعرفة التجريبية التي تعتمد على التجارب ووضع الفروض لإثبات صحة أو خطأ أي نظرية ما، ويتوصل الباحث عن هذه المعرفة في النهاية إلى القوانين العامة والفرضيات التي تثبت صحة هذه النظرية.

الـمـعـرفــة عـنـــد الـحـضــــارة الـيـونـانـيــــة الـقـديـمـــــة

تغيرت نظرية المعرفة كثيرًا عبر العصور، وهي ليست وليدة العصور الحديثة فقط، بل كانت منذ أقدم العصور، وهي مفهوم يتطور دائمًا، ومنذ زمن إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني كانت نظرية المعرفة ذات مكانة عالية فاقت كل جوانب الفلسفة الأخرى، ومنذ ذلك التاريخ لم تكن الفلسفة مُعرَفة للعَالَم، بل تفكير في هذه المعرفة بالعلم أو هي المعرفة بالمعرفة، ومن هنا وُجِدَ التميّز في وضع المشكلة لدى فلاسفة اليونان مثل أرسطو.

كان الفكر اليوناني في هذه الآونة ولاسيما فكر أرسطو منصبًا على وصف الطبيعة والتعرف على مكوناتها لكن لم يتم التطرق إلى التعرُّف على آليات المعرفة وفروعها، ولا حتى طرق الحصول عليها، فقد كان الفكر العام لدى علماء الفلسفة اليونانيين منصبًا على الطبيعة فقط.

تحدثنا في جزءنا الثاني من مقال فلسفة العلم والمعرفة عن الاشتقاق اللغوي، والفارق الاصطلاحي بين كلمتي العلم والمعرفة، وتطرقنا أيضًا إلى الفارق الفلسفي بين المعلومات والبيانات، وانتقلنا إلى أنواع المعارف الإنسانية، وأنهينا الحديث عن الفكر اليوناني حول العلم والمعرفة وكيف أنه كان ذا طابع معتدل مهتم بالطبيعة وكيفية نشأة الظواهر بها، وللحديث بقيّة في الجزء الثالث والأخير في مقالنا فلسفة العلم والمعرفة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد