ظهرت الفلسفة بوجهٍ عامٍّ مع وجود الإنسان على سطح الأرض، إذ ليس من الممكن تحديد زمن بعينه لبداية الفلسفة، فالإنسان يتميز عن غيره من الكائنات الأخرى بالعقل، وقد بدأت عملية التفكير تتطور لديه بالتدريج حتى وصل لفعل التأمل والبحث والسؤال، وهذا بحد ذاته يعد حجر الأساس للفلسفة، وإن كان يصطلح على تحديد الفترة التي بدأت فيها الفلسفة بالقرن السادس قبل الميلاد من قبل الكثير من مؤرخي الفلسفة الذين ربطوا تاريخ «الفلسفة» بالحضارة اليونانية.
أولًا: مفهوم الفلسفة:
أ: المعنى اللُّغوي: إن كلمة فلسفة مشتقة من اللُّغة اليونانية. أصلها فيلا صوفيا ومعناها محبة الحكمة. ويقول الفارابي في المعنى اللغوي لكلمة فلسفة :«اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل في العربية وهو على مذهب لسانهم مركب من فيلاوصوفيا، ففيلا الإيثار وصوفيا الحكمة».
الحكمة تعني إدراك الحق والصدق في القول والعمل، والمعرفة العميقة الواسعة بحقائق الأمور والعمل بما يتلائم مع هذه المعرفة طلبًا لأقصى درجات الكمال. ويُعد فيثاغوراس أول من استخدم لفظ فيلسوف بمعنى محب للحكمة ورد اسم حكيم لأن الحكيم هو الله، ويكفي أن يكون الإنسان محبًا للحكمة ساعيًا وراءها.
ويرى «عادل العوا»: «أنَّ العلماء يجهلون متى بدأت الفلسفة، ومتى أخذ الفكر البشري يتضح وينتظم، أي يتعقل ويتفلسف طالبًا المعرفة الحقيقية ساعيًا وراء الحكمة، وما يعلمه الباحثون أو يقر به المفكرون أنَّ الإنسان «فيلسوف بالطبع» وأنَّ فريقًا من البشر شبُّوا في وقت من الأوقات عن طور الأسطورية والخيال الخرافي، وألفوا شيئًا بعد شيء الانصراف إلى «الحكمة» فعرفوا بأنَّهم أصحابها، وأصحاب الحكمة هم الفلاسفة بالمعنى الواسع» (1)
وفي التعريف المعجمي يورد المعجم الوسيط في تفسير كلمة فلسفة أنها «دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة تفسيرًا عقليًا، وكانت تشمل العلوم جميعًا، واقتصرت في هذا العصر على المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة وتاريخ الفلسفة. » (2)
ويورد معجم التربية تعريفًا للفلسفة مشابها للتعريف السابق فيقول في تعريف الفلسفة بأنها: «العلم الذي يرمي إلى تنظيم وترتيب كل مجالات المعرفة بوصفها وسائل لفهم وتفسير الحقيقة في صورتها الكلية، وهذا العلم يشمل عادة المنطق والأخلاق وعلم الجمال وما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا) ونظرية المعرفة».
ب: المعنى الاصطلاحي: إنَّ المعنى الحرفي للفلسفة هو محبة الحكمة، ولكن الوصول إلى المعنى الفني الاصطلاحي صعب وعسير، فتعريف الفلسفة اليونانية في مهد نشأتها للفلسفة يختلف عن تعريف الفلسفة الحديثة للفلسفة، بل إنَّ تعريفها يختلف من مذهب إلى آخر، أو ربما من فيلسوف لآخر، حيث ينظر بعضهم إلى الفلسفة على أنَّها محاولة التعرف إلى «الوجود المطلق»، وهذا التعريف يرفضه الماديون والطبيعيون الذين يقولون: إنَّ معرفة المطلق سواءً أكان موجودًا أم غير موجود شيء فوق قدرة البشر، ولا يجني الإنسان نفعًا من أن يقضي عمره يبحث عن هذا المطلق.(3)
وقد نظر بعضهم إلى الفلسفة على أنَّها دراسة المبادئ العامة والعلل البعيدة والغايات العظمى للكون، بغية الوصول إلى تفسير كلي شامل للوجود.(4)
ومنهم من يقرر أنَّ الناس ينظرون إلى الفلسفة على أنَّها البحث عن الجوهر واللامتغير.(5) والواضح أنَّ مثل هذه التعريفات جميعًا تصدق على الفلسفة القديمة كما تصوِّرها فلاسفة الإغريق ومن تأثر بهم في العصور الوسطى إلى حدٍ كبير، أمَّا فلسفة العصر الحديث فلابدَّ أن تكون ذات معنى مختلف تمامًا عن المعاني السابقة، لأنَّ العلم قطع شوطًا كبيرًا في مناقشة كثير من القضايا، وانسلخت مجالات كثيرة من جسم الفلسفة، «وأصبح الناس ينظرون إلى الفلسفة الآن على أنَّها جهد عقلي منظَّم مستمر ليجعل من الحياة شيئًا له معنى، ويقوم الذكاء بتوجيهه، فالفلسفة الحديثة تحاول فهم الواقع بصورةٍ أعمق، وتقوم بتحليل الأفكار والمعتقدات والمبادئ التي يقوم عليها نشاط الإنسان في حياته، ونقد محاولته الفكرية وتوجيهها بما يعود على الإنسان بالمنفعة والخير العميم»(6)
وأشار «لالاند» في موسوعته إلى أنَّ الفلسفة دراسة نقدية فكرية لما تنظر فيه العلوم، وهي تبحث في أصول معارفنا في أصول اليقين ومبادئه، وتسعى لاختراق علة الوقائع التي يتناولها مبنى العلوم الوضعية.(7)
وقد أشار «زكريا إبراهيم» في كتابه «مشكلة الفلسفة» إلى مجموعة من التعريفات الحديثة للفلسفة، فأورد تعريفًا لـ«بوترو Boutroux» يقول: إن الفلسفة «جهد يراد به النظر إلى الأشياء من وجهة نظر كلية» كما أورد تعريفًا لـ«بارودي Barodi» يحدِّد الفكرة الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة فيقول: «إنَّ المهم في الفلسفة هو الجهد المبذول في سبيل الوصول إلى تأليف شامل أو مركب كلِّي … فالفلسفة معرفة تأملية وتوحيدية معًا» (8)
ويعرِّفها «ج. ف. نيللر J.Ph.Niller» بأنَّها «محاولة التفكير بأكثر الطرق عمومية ونظامًا في كلِّ شيء في الكون، أي التفكير في كلِّ الحقيقة» (9)
أمَّا «جون ديوي» فيختصر اهتمام الفلسفة الحديثة إلى مجرد البحث في ماهية القيم واشتقاقها ومصادرها وطبيعتها وكيفية تبريرها، وأثرها في تنظيم الخبرة لتصبح ذات نمط واضح مقبول، وبالتالي تكتسب الفلسفة قيمة في حياتنا العملية ووظيفة في حلِّ الصراعات القيمية والأخلاقية داخل النظام القيمي العام للمجتمع. (10)
وهذا الاختلاف في تحديد معنى الفلسفة قد أدَّى إلى تعقد الأمر، وتخوُّف الناس من استعمالها، وظن الكثيرون أنَّها عمل من اختصاص فئة قليلة من الناس تعيش بمعزل عن الآخرين، ويستخدمون لغةً فنيةً خاصةً بهم يمعنون في اختيار ألفاظ غير مألوفة وعبارات غريبة، ويرى «النجيحي» أنَّ كلَّ هذا يمكن أن يتبدَّد لو حاول الفلاسفة تبسيط لغتهم وتيسير التعامل العادي معهم، وفي حقيقة الأمر فإنَّ الفلسفة لا تزيد عن أن تكون وجهة نظر معينة للفرد نفسه، ولكنَّها وجهة نظر متعقلة متأنية تبنى على درجة من الذكاء والابتكار تزيد أو تقل.(11) غير أنَّها في التحليل النهائي يجب أن تكون متسقة بعضها ببعض، فهي معرفة من نوعٍ خاصٍّ، معرفة ذكية وعميقة تدرك الأسباب وتحدِّد الغايات من ورائها، فلو أخذنا بتلك النظرة كان أمر الفلسفة سهلًا ميسورًا، وأمكننا بعد ذلك النمو في مسارها، واكتسبنا القدرة على استخدامها والانتفاع بها.
ثانيًا: أقوال الفلاسفة في تعريف الفلسفة:
إذًا يمكن القول بصفة عامة: بأنه لا يوجد اتفاق حول تعريف الفلسفة أو تحديد مضمونها ومباحثها، لا يوجد تعريف واحد للفلسفة يتفق عليه الفلاسفة قديمًا وفي العصر الحديث، بل كل فيلسوف يعرِّف الفلسفة حسب مذهبه.
1: تعريف أرسطو: «هي العلم النظري بالمبادئ والأسباب الأولى، وهي العلم الكلي الذي يشمل العلوم الأخرى ويعلوها،(وعرَّفها) علم الموجود بما هو موجود» أو «العلم بالأسباب الأولى».
2: تعريف ابن رشد: «فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع؛ أي من جهة ما هي مصنوعات، فإنَّ الموجودات، إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها وأنَّه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم، وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك… في مثل قوله تعالى : (فاعتبروا يا أولي الأبصار)».
3: كل إنسان مدفوع إلى ممارسة التفلسف عندما تعترضه مشكلات تثير فضوله المعرفي فيُـقـبـِلُ على النظر فيها وتحليلها ومعالجتها وتحليل الأشياء لإدراك مكوناتها وعللها القصوى، ومنهج فعل التفلسف والفلسفة هو التأمل العقلي والتحليل المنطقي للوقائع والمشكلات على أساس الشك والحس الإشكالي والنقد البنّاء للمواقف والآراء والرغبة في المعرفة والبحث عنها باستمرار.
4: التفلسف هو شرط قيام الفلسفة، وهو نمط متميِّز من التفكير منصب على المنتوج الثقافي يدرسه ويحلله وينقده لأجل تطويره، منهجه التأمل وسبيل هذا المنهج هي المشكلة والبرهنة، والهدف من التفلسف هو طلب أقصى ما يمكن من الوضوح والدقة لبلوغ الحقيقة القصوى التي يطلبها العقل بمبادئه ومعاييره الصارمة في تأمله في الوجود الطبيعي والإنساني والماورائي.
وخلاصـة القول: الفلسفة تتميَّز بكونها فعلًا فكريًّا تأمليًّا عقليًّا شاملًا حول الوجود الطبيعي والإنساني والماورائي، الوجود المحسوس والوجود المعقول، العالم المادي والعالم الروحي، يقوم هذا الفعل على الحس الإشكالي والتحليل المنطقي العميق، والنقد البنَّاء من أجل الوصول إلى الحقائق الكليَّة والعلل البعيدة للوجود بمختلف أصنافه.
والفلسفة فعل عقلي منهجه التأمل في الوجود المحسوس والمعقول، في العالم المادي والماورائي بغية معرفة العلل والأسباب البعيدة بالاعتماد على الشك والتحليل المنطقي العميق والنقد وغيرها في إطار أسلوب المشكلة والصورنة والبرهنة طلبًا لأقصى ما يمكن من الوضوح والدقَّة في المعرفة.
يقول «جميل صليبا» في معجمه الفلسفي: «لفظ فلسفة مشتق من اليونانية وأصله (فيلا-صوفيا)، ومعناه محبة الحكمة، ويطلق على العلم بحقائق الأشياء، والعمل بما هو أصلح؛ كانت الفلسفة عند القدماء مشتملة على جميع العلوم، وهي قسمان: نظري وعملي، أما النظري فينقسم إلى العلم الإلهي، وهو العلم الأعلى، والعلم الرياضي وهو العلم الأوسط، والعلم الطبيعي، وهو العلم الأسفل، وأما العملي فينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضًا، أولها سياسة الرجل نفسه، ويسمى بعلم الأخلاق، والثاني سياسة أهله، ويسمى بتدبير المنزل، والثالث سياسة المدينة والأمة والملك». (12)
والفلسفة تسمى بأم العلوم ، وعلى الرغم من أن العلوم قد استقلت عن الفلسفة واحدًا بعد واحد، فإن بعض الفلاسفة ظل يطلق كلمة الفلسفة على جميع أنواع المعارف الإنسانية، مثل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت – الملقب بأبو الفلسفة الحديثة – إذ قال: إن الفلسفة أشبه ما تكون بشجرة، جذورها علم مابعد الطبيعة، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها العلوم الأخرى كالطب، وعلم الميكانيكا، وعلم الأخلاق.
وأهم الصفات التي تتصف بها الفلسفة هي: الشمول، والوحدة، والتعمق في التفسير والتعليل، والبحث عن الأسباب القصوى والمبادئ الأولى، لذلك عرفها الفيلسوف اليوناني الشهير «أرسطو» بقوله: إنها العلم بالأسباب القصوى، أو علم الموجود بما هو موجود، وعرفها الفيلسوف ابن سينا، بقوله: إنها الوقوف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه.
أما في العصور الحديثة، فإن لفظ الفلسفة يطلق على على دراسة المبادئ الأولى التي تفسر المعرفة تفسيرًا عقليًّا كفلسفة العلوم، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة التاريخ، وفلسفة الحقوق، وفلسفة التربية.. إلخ. والحقيقة أن موضوع الفلسفة موضوع واسع ومحل خلاف بين الفلاسفة، ولكن اقتصرنا على هذا القدر من المعلومات على قدر الحاجة وقدر ما يساعدنا في موضوع البحث.
ويمكن القول بصفة عامة أنه لا يوجد اتفاق حول تعريف الفلسفة أو تحديد مضمونها ومباحثها، لذلك نجد أختلافًا في تعريفها من قبل الفلاسفة:
*تعريف كونت : نادى الفيلسوف الفرنسي كونت بأن الفلسفة في هذا العالم الجديد للعلم تقتصر فائدتها على توضيح مفاهيم ونظريات العلم، وأن على الفلسفة أن تتخلى عن مجال الميتافيزيقا، لأن القضايا التي يتناولها هذا المجال لا تسمح بالتحليل العلمي أو التجريبي أو البرهنة.
*تعريف فينيكس : وهو من فلاسفة التربية الأمريكيين، يقول في كتابه «فلسفة التربية»: «إن الفلسفة ليست مجموعة من المعارف، ولا تؤدي دراستها إلى تجميع عدد من الحقائق، وهي ليست طريقة من طرق النظر إلى المعرفة التي لدينا فعلا، وهي تتضمن تنظيم وتفسير وتوضيح، ونقد ما هو موجود بالفعل في ميدان المعرفة والخبرة، وتستعمل كمادة لها ما تتضمنه العلوم والفنون المختلفة، والدين والأدب ومن معارف، كما أنها تستعمل المفاهيم العامة العادية». (يرى أن هناك أربع مكونات للفلسفة: الشمول، اتساع النظرة، البصيرة، التأملية).
*تعريف كونور : هو من الفلاسفة البريطانيين المعاصرين في كتابه «مقدمة في فلسفة التربية»: «إن الفلسفة ليست نظامًا من المعرفة ذات الطابع الإيجابي (أي له مضمون معرفي) كالقانون أو علم الأحياء أو التاريخ والجغرافيا، وإنما هي نشاط نقدي أو توضيحي…».
كما هو واضح من التعريفات السابقة يختلف الفلاسفة فيما بينهم حول تحديد مفهوم الفلسفة، ومع هذا فإنه يمكننا بصفة عامة أن نميز اتجاهين رئيسين:
الاتجاه الأول: يرى أن الفلسفة هي أسلوب للتفكير وطريقة للمناقشة في تناول المشكلات وتحليلها ومعالجتها، وهذا يعني أن الفلسفة ليس لها مضمون علمي يقوم على مجموعة الحقائق كما هو الحال في باقي العلوم.
الاتجاه الثاني: يرى أن الفلسفة هي أكثر من كونها طريقة أو أسلوب للتفكير، فهي إلى جانب ذلك لها مباحثها الخاصة وميادينها المعرفية.
ثالثاً: مباحث الفلسفة:
إن المباحث الرئيسية للفلسفة هي المباحث الثلاثة الآتي:
1.الأنطولوجيا (Ontology) : أي دراسة طبيعة الحقيقة، وتتعلق بالبحث في الوجود والكون والحياة والإنسان، ومن المرادفات الشائعة للأنطولوجيا الميتافيزيقا – ما وراء الطبيعة – الإلهيات، الغيبيات.
2.الإبستمولوجيا (Epistemology): أو نظرية المعرفة أي تبحث في طبيعة المعرفة، حدودها وأنواعها، وكيف نتحقق من هدف المعرفة، كما تبحث في مصادر المعرفة وأهميتها النسبية.
3.الأكسيولوجيا (Anxiology) :تتعلق بالبحث في القيم – طبيعتها، مصادرها، أنواعها – بمشكلات الحق والخير والجمال، وفي القيم الجوهرية الخالدة ككرامة الإنسان، القيم الإجرائية مثل تفضيل منهج معين على آخر، والأكسيولوجيا تبحث في: علم الأخلاق (أخلاقيات الإنسان، الشر، الخير)، وعلم الجمال، معايير الجمال، والإنسان، والبيئة.
ويورد معجم صليبا الفلسفي في تفسير كلمة فلسفة أنَّه إذا دلَّت على دراسة العقل البشري من جهة ما هو متميَّز عن موضوعاته قُسمت إلى قسمين: (13)
1ـ قسم يشمل البحث في أصل المعرفة وقيمتها وفي مبادئ اليقين وأسباب حدوث الأشياء، وهو ما يحاول كلُّ فيلسوف أن يجيب به عن سؤالنا: ماذا يمكننا أن نعلم؟
2 ـ قسم يشمل البحث في قيمة العمل وهو الإجابة عن سؤالنا: ماذا يجب أن نفعل؟
وبناءً على ما سبق يمكننا القول: بأن الفلسفة نسق معرفي، يبحث في ثلاثة مباحث رئيسة هي: مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم.
1ـ مبحث الوجود: وهو الذي يبحث في طبيعة الوجود أهو مادي في طبيعته؟ أم هو روحي؟ أم يرجع إلى المادة والروح معًا؟ أم يرجع إلى عنصر آخر لا هو بالمادة ولا بالروح وهو ما يسمى العنصر المحايد؟
2ـ مبحث المعرفة: وهو الذي يبحث في طبيعة المعرفة وأدواتها فيتساءل .. ما هي أداوت المعرفة أهي العقل أم الحواس؟ أم هي العقل والحواس معًا؟ وهل توجد أفكار فطرية يولد الإنسان وهو مزود بها أم أن كل معارفه مكتسبة عن طريق التجربة؟ ومن أسئلة هذا المبحث أيضًا كيف نعرف؟ وماذا يمكن أن نعرف؟ وما حدود المعرفة؟ وهل للمعرفة حدود؟ ويشكل مبحثا (الوجود والمعرفة) ما يسمى بـ(الفلسفة النظرية).
3ـ مبحث القيم: وهو يشكل ما يسمى بـ(الفلسفة العملية) وموضوعه الأساسي الأخلاق والسياسة والمجتمع والبحث بالقيم بأشكالها المختلفة، وخصوصًا ثالوث القيم (الحق والخير والجمال). والفلسفة النظرية والفلسفة العملية مرتبطتان ببعضهما أشد الارتباط، فالفلسفة النظرية تقدم للفلسفة العملية الأسس التي تنطلق منها، والفلسفة العملية تترجم الفلسفة النظرية على أرض الواقع؛ بمعنى آخر كما أن لكل علم جانبًا نظريًّا وجانبًا عمليًّا، كذلك فإن للفلسفة أيضًا جانبان نظري وعملي يتجليان من خلال الفلسفة النظرية والفلسفة العملية ليشكلان في المحصلة الفلسفة بوجه عام، وكان يرى غارودي«إن المسألة الأساسية في كل فلسفة هي مسألة بدايتها، ونحن منضمون في حقيقة واقعية ذات وجوه متعددة؛ فهناك الطبيعة، وظاهراتها، وصيرورتها، ثم هناك أفكارنا، وعلاقاتنا الاجتماعية وتاريخنا، ونحن نعاني الطموح إلى الوحدة، وآخر كلمة في فلسفتنا رهنًا بأول كلمة؛ فمن أين نبدأ؟ أنبدأ بالأشياء، أم بالوعي الذي يتكون لدينا عنها؟ وهل الذهن أول، بالنسبة إلى الطبيعة؟ أم أن الطبيعة هي العنصر الأولي، فلا يكون الفكر إلا ازدهارها النهائي الأعلى، في نهاية نمو تطوري طويل؟ »(14) وقد كانت رؤية غارودي هذه في بداية مسيرته الفكرية عندما كان يبحث في نظرية المعرفة (الفلسفة النظرية) وقبل أن يحول اهتمامه إلى الفلسفة العملية، ثم تحول إلى نقد الفلسفة النظرية وعاب على الفلسفة الأوروبية تمسك منذ القديم بالفلسفة النظرية (الوجود والمعرفة) وإهمالها للفلسفة العملية (فلسفة الفعل) وبالمقابل رأى بأن الفلسفة العربية تهتم بشكل أكبر بالفلسفة العملية وخصوصًا لدى المتصوفة العرب والمسلمين (كابن عربي والسهروردي…إلخ) الذين لم يتأثروا بفلسفة أفلاطون وأرسطو، وذلك بخلاف الفلاسفة العرب والمسلمين الذين تأثروا بفلسفة أفلاطون وأرسطو، وأصابتهم عدوى الفلسفة اليونانية على حد تعبير غارودي ( الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد…الخ). وهذا الخلاف المنهجي حول دور ووظيفة الفلسفة يشكل، برأي غارودي، عائقًا منهجيًّا في وجه الحوار بين الحضارتين العربية والأوروبية، وقد أوضح غارودي محور فلسفته بقوله: « إن محور ومحرك تفكيري الفلسفي، هو السعي إلى بلورة فلسفة لـ «الفعل». بما يتعارض مع الميتافيزيقا الغربية المتوارثة حول «الوجود»، ومن هنا كان انتقادي المنهج المنظم للفلسفة الإغريقية التي من بارمنيد إلى أرسطو، مرورًا بأفلاطون، جعلت مسلمتها الدائمة، ما وراء المظاهر المحسوسة والصيرورة، وجود خارجي ساكن لا يحول ولا يزول» (15)
الفلسفة ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانية وتتجلى أهميتها على مختلف مستويات الوجود الإنساني، على المستوى الفردي والأسري والاجتماعي وعلى المستوى الفكري والعلمي والثقافي والحضاري، وهي ليست بالشيء الطارئ أو الدخيل على الإنسان، لأن حياته عبارة عن حلقات متصلة من الفكر والتأمل، ولن نستطيع ـ حتى إذا أردنا ـ أن نجعل عقولنا تكف عن التفلسف، لأننا إن فعلنا ذلك نكون كمن يكلف الأشياء ضد طبيعتها، أو كمن يحاول أن يمنع الحياة من الحركة والنشاط، والفلسفة بصفةٍ عامةٍ تساهم في بناء الإنسان عقليًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وخلقيًّا ودينيًّا، وتساهم في بناء المجتمع وفي تطويره وازدهاره، وتساهم في أنسنة الإنسان ليحيا الإنسانية في أبعد مداها في ذاته وفي محيطه باستمرار.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست