نحاول جميعًا في هذه الحياة أنّ نصل إلى القمة، ومنّا من ينجح في ذلك ومنّا من يخفق. وقضت الحياة ألا يبلغ القمة إلا من عرف أن بلوغها يستلزم منه أن يُتبع المحاولة الأخرى عند الإخفاق، وأن يستمر دون توقف حين الإجهاد، وأن يحوّل معرفته هذه إلى تطبيق عمليٍّ. وهذا ما عبرت عنه الأديبة مي زيادة بقولها: «إنما حياة الإنسان على الأرض جهادٌ مستمر رغم كونها محض عبور».
إنك إذا وصلت إلى هذه الحقيقة وأدركتها، فحينها تكون قد قطعت نصف الطريق، ولا يبقى لك للوصول إلى نهايته سوى أن تطبِّقها في شؤون حياتك كلها، وإذا بك قد وصلت إلى نهاية الطريق ملتقيًا بحلمك الذي طالما انتظرته.
إن الشيخ علي الطنطاوي لم يصبح فقيه الأدباء وأديب الفقهاء بين ليلةٍ وضحاها، وإنما بتغلبه على ظروفٍ قاهرةٍ مرّ بها وكانت تحديدًا عند وفاة والده وما تبعها من تكليفه بالنهوض بأعباء أسرته المؤلفة من أم وخمسة من الأخوة والأخوات هو أكبرهم بعمرٍ لم يتجاوز الست عشرة سنة، وقد كان الميراث الذي تركه له أبوه ديونًا هائلةً ألجأت أسرته إلى أن تسكن دارًا لا تصلح لأن تكون إسطبلًا للحيوانات، فلا شمسٌ تدخلها ولا ماءٌ نظيفٌ يجري إليها، وألجأته تلك الديون لأن يعمل بالتجارة ويترك دراسته، ولكنه سرعان ما انتبه إلى أنه لا فلاح ولا نجاة إلا بالعلم فترك تجارته وعاد إلى دراسته وأصبح بذلك الأديب الفقيه المعلّم القاضي الصحفي علي الطنطاوي.

وأما الأديب الرافعي الذي لُقّب بمعجزة الأدب العربي فقد أذهبت الحياة بسمعه، وأما الشيخ كشك خطيب المنابر وفارسها فقد أذهبت ببصره، وقد كانت مع العالم والإمام ابن حزم الأندلسي أشد حزمًا وصرامةً وذلك بهدم دوره ومصادرة أمواله وإحراق كتبه وفرض عليه الإقامة الجبرية.
وإذا أردتُ أن أسرد لك قصص جميع من عانى وتألم، فسيطول بنا المقام وسنفقد بوصلة المقال، ولكن ثق تمامًا أن الظروف القاسية لم تترك عالمًا أو أديبًا أو كاتبًا.. إلا وأتت عليه، وإنما يكون الاختلاف بنوعها لا بطبيعتها، فذلك تصيبه بأهله وثانٍ بماله وثالثٍ بصحته وهكذا.. ولكنها جميعها تحمل من القسوة -في ظاهرها- الشيء الكثير، ومن الخير -في باطنها- الشيء العظيم.
إذن إن الطريق القصير الخالي من المعوقات لا يوصل إلى شيء، ولو كان يوصل إلى شيٍ لكنا جميعًا سلكناه ولكانت القمة ملتقى الجميع.
وإذا سألتني عن الوقت الذي ستنتهي به التحديات والصعوبات والمشاق، فسأجيبك حالًا بأن ذلك سيحدث عندما تضع أول قدمٍ لك في الجنة، وهذه كانت إجابة الإمام أحمد بن حنبل عندما سُئل عن الوقت الذي يجد فيه العبد طعم الراحة، وهو الذي كان جبلًا راسخًا أمام محنة خلق القرآن رغم كل ما لقيه في سبيل ذلك من جلدٍ وتعذيبٍ ثم نفيٍ وتشريدٍ ومطاردة.
فالمشاق والصعوبات هي من طبيعة الحياة التي أرادنا الله أن نعيشها وأن نُمتحنَ بها، لذلك فالأجدر بنا والأصلح لنا هو التكيّف معها والصبر عليها إذا كانت مما لا يمكن تغييره، ومقاومتها ومجاهدتها إذا كان إلى تغييرها من سبيل. فالشجاع الفطن ليس من يحاول نقل جبلِ أو زحزحة صخرةِ، فيهدر وقته ويبدد جهده فيما لا طائل له من ورائه، وإنما من يحاولُ استغلال قدراته ومهاراته وتوجيههما فيما يعود عليه بالنفع والفائدة.
أضع بين يديك ما قاله أبو العتاهية، فخذه عني وأجعله سَلواك حين تزحف إليك الملمات:
هي الأيامُ والعبرُ وأمرُ الله يُنتظرُ
أتيأس أن ترى فرجًا فأين الله والقدرُ؟!
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست