الأدب الصادق هو الذي يرتقي لمرحلة النبوءة..
من هنا كان الشاعر الصادق نبيًا في قومه ولا نقصد نبيًا مرسلًا من عند الله كي لا يسيء فهمنا المتشددون وأصحاب الرؤى المتعصبة.
أقصد نبيًا يتنبأ بالأحداث قبل حدوثها ونزولها لما له من بصيرة ووعي وحواس مستقيظة تجلي له المستقبل دائمًا. فهو دائم القلق عما سيحدث مستقبلًا ودائم التساؤلات عما يدور في واقعه، وله قلب أهلكه التمني في أن يصير واقعه محببًا لنفسه ولمن يعيشون حوله مهما كان الواقع جميلًا فهو لا يكف عن التمني أبدًا.
لكن يبلغ الصدق أحيانًا ذروته فيضيق صدر الشاعر والكاتب، وخاصة حينما لا يتغير شيء حوله ويشعر أنه يدور في الفراغ. فلا يجد مفرًا سوى أن يطيل النظر للموت ويصادقه ويتآلف معه ولا يمل صحبته، فيكون سهلًا عليه أن ينتحر وينهي حياته بيده.
لا بد من إصلاح الحياة حتى وإن كان ثمنها حياته.. فيرى في الموت متسعًا لروحه وجسده. ومن هنا يصير نصف نبي فحياته الأخرى هناك على الضفة الأخرى لا يعرفها سواه وحده والله أعلم به. فنبوءته نصفها على الضفة الأخرى ولنا منها نصفها.
ومن أولئك الذي اتخذوا قرار إنهاء حياتهم والذهاب إلى الموت كفضاء يتسع له ولا يضيق وينهي كل متاعبه..
كانوا هؤلاء:
الشاعرة الأمريكية (سيلفيا بلاث)
شاعرة أمريكية وروائية وكاتبة قصص قصيرة. ولدت في ولاية ماساتشوستس من الولايات المتحدة الأمريكية ودرست في جامعة سميث وجامعة نيونهام في كامبريدج قبل أن تشتهر كشاعرة وكاتبة محترفة. تزوجت من الشاعر تيد هيوز في 1956 وعاشوا أولًا في الولايات المتحدة قبل أن ينتقلوا إلى بريطانيا, لديهم طفلان: فريدا ونيكولاس. بعد صراع طويل مع الاكتئاب والانفصال الزوجي انتحرت بلاث في 1963.
وكان من شعرها:
أدركت المرأة كمالها أخير.
جسدها الميت
يحمل ابتسامة التحقّق.
وهم قدر إغريقي
ينساب بين طيّات ثوبها.
قدماها العاريتان كأنهما تقولان:
كثيرًا مشينا. كفي.
على صدرها طفلان ميتان
مقمّطان
حيّةُ بيضاء ملتفّة عند كل إبريق حليب
أصبح الآن فارغا.
طوتْهما من جديد داخل جسمها
مثلما تضمّ وردة بتلاتها
عندما يغزو الخدر الحديقة
وتنزف العطور من حَلْق زهرة الليل العذبة العميقة.
أدركت المرأة كمالها أخيرا
وليس للقمر أي مبرّر للحزن
فهي معتادة هذه الأمور.
فسحاتها السوداء تطقطق وتسحبها
الشاعر الكوبى رينالدو أريناس
عاش أريناس طفولة تعسة ومؤلمة في قرية صغيرة في شمال مقاطعة أورينـتي، وفي بـيت جده لأمه – هـجرها أبوه باكرًا – الذي تنحشر فيه خالات مطلقات، وحيث يعاني الجميع من العذاب الذي يفرضه البؤس. وكان جو البيت خانقًا بالنسبة إلى الصبي الذي يحب أمه ويكرهها في آن، فيهرب من ضغط البؤس والوحدة إلى روعة الطبيعة التي تحيط به، ليــشعر بالحرية ويسطر كلمات، وهو يراقب أطفالًا ومراهقين من قريته يستحمون عراة في النهر: يصبح الاختناق في جو العائلة كامتداد للقمع السياسي، وعلاقة الحب – الكراهية مع الأم، من مواضيع مجموعته القصصية الأولى “العينان المغمضتان“. وانتحر رينالدو أريناس عام 1990.
ومن شعره:
لماذا هذه الرغبة في البحث
عنك؟
حيث لن يُعطي لي أن أجدك
مهما ابتغيت؟
وأي رعب بلا وقت يدفعني
آنئذ
إلى استحضارك دائمًا رغم هذا الرعب كله؟
لن يهدأ حزننا
أن نعثر عليه بداية لعقوبة أخرى
وفي الآن نفسه لن أكف أبدًا عن تأملك
يا أيها القمر، ها أنا مسجون من جديد
عند تقاطع أهوال
كثيرة
الماضي هو كل ما فقدت
وإذا ما نهضت من الحاضر
فلا شيء سوى لأرى أني جريح
وحتى الموت
الشاعر السوداني عبد الرحيم أبو ذكرى
عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم (أبو ذكرى) كما عرف لاحقًا، شاعر و أديب سوداني، جمع مواهب أخرى كالترجمة والكتابات الثقافية والحوار والعمل الصحفي الأدبي إضافة لتميزه الأكاديمي.
ولد بقرية تنقاسي السوق مركز مروي عام (1943)، درس الأولية والوسطى بكوستي، وفيها تشكلت الملامح الأولية لاتجاهاته الأدبية والروحية إذ عرف بنهمه للمعرفة كما عرف بتردده اليومي على مكتبتي المدرسة الثانوي بخور طقت. تم قبوله بجامعة الخرطوم كلية الآداب في عام 1963م، وواصل اهتمامه بالأدب والثقافة وأصبح عضوًا برابطة أدباء الجامعة. وكان معروفًا لدى زملائه بالشفافية والرهافة.
توفي د. عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم أبو ذكرى بتاريخ 16 أكتوبر 1989م في صباح لم تستبن ملامحه بعد إذ ألقى بنفسه من شرفة شقته التابعة لأكاديمية العلوم السوفيتية و التي كانت تطل على شارع استروفياتفا من الطابق الثالث عشر وكان سقوطه و ارتطام جسده عنيفًا بين الرصيف والأعشاب على جانب الطريق. وبعد أن اكتملت إجراءات عودة جثمانه للوطن كان في تشيعه عدد كبير من الناس (أهل، أقارب، أصدقاء).
وكان من شعره:
وثورة على الغيم أنا
وتجديف على الملائكة
مرتطم بحائط هنا
مرتطم بنجمة هنالكا
والأرض والسماء تسقط الجبال والشهب
وتشعل النيازكا
وفي قصيدة (ليس عن الحب)
صراحة عن سمائها الغريبة تلك التي
أتأملها في الخفاء
وأحدثها ساهمًا في المساء
وحين يناجيها يتحدث الشاعر عن رفقتهما معًا حيث يغشيان النجوم البعيدة
ثم نرحل بين الحزون ونهبط فوق النيازك
فتحاصرنا النار تحت التخوم القديمة
لكن الشاعر يفصح عن الصورة المقابلة التي تقض مضجعه
ونقاتل هذا الزمان القبيح
في حشانا
في خطانا
و نحز براثنه القاتلة
هكذا كان المنتحرون أنصاف أنبياء ورحلوا مختارين حياة ما بعد الموت، وكان من حظنا نصف نبوءتهم فقط.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست