من قال لك إننا نستطيع من خلال المشاركة السياسية وحدها بناء دولة مستقلة وتطهير البلاد من الخونة والفاسدين؛ فهو مخطئ تمامًا.
ولكن أيضًا من قال لك إنّ العملية السياسية كلّها بيد أعداء الأمة، فلا يمكن من خلالها القيام بأي تأثير أو تغيير، لأنّ الأعداء يقبلون بمرور من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون، هذا أيضًا مخطئ تماما.
إنّ الناظر إلى حال المشاركين في العملية السياسية في البلاد المختلفة سيرى أنّ بعضهم قد خضع فعلًا إلى إملاءات المتحكّمين في نظام الدولة، ملكيًّا كان أو جمهوريًّا (حزب العدالة والتنمية المغربي نموذجًا). ولكنّه في نفس الوقت سيجد من استطاع بحنكته السياسية وإحسان استخدامه لنقاط القوة التي يملكها أن يحقّق نقاطًا لصالحه ولصالح الشعوب العربية والإسلامية من خلال المشاركة السياسية مع نوافذ العمل الاجتماعي والشعبي (حزب العدالة والتنمية التركي نموذجًا).
استطاعت القوى الغربية وأذيالها من العسكر ورجال الدولة، في ظروف معيّنة، أن تُقصي جهةً ما حاولت السير في طريق المشاركة السياسية، وعجزت في ظروف أخرى في بلاد مختلفة أن تفعل نفس الأمر.
النموذج الأفضل لأمريكا على سبيل المثال هو نموذج الدول الخليجية، كالسعودية والإمارات وغيرها، بالإضافة إلى المملكة الأردنية؛ فهي تخضع للإملاءات بل وتشارك في الحملات العسكرية ككلاب بوليسية توفّر على الأمريكيين عناء الممارسة العسكرية المكلفة. لكن هذا النموذج لم يتمّ تعميمه على كلّ البلدان الواقعة تحت هيمنة النظام الدولي بشكل أو بآخر، لأنّ الأمر ببساطة ليس “كن فيكون”!
إنّ الواقع يقول لنا بأنّ أمريكا لم تستطع إخضاع النظام التركي، الذي هو حليف لها وللغرب من نواح عدّة أبرزها عضويته في حلف الناتو، لتسخّره لنفس المهمّة في تحالفها الدولي الجديد.
فلو كان أمر عزله أو إقصائه والإتيان بنموذج ينفذ الإملاءات والرغبات الأمريكية – كنموذج دول الخليج – أمرًا سهلا؛ فلماذا إذن لم تمارسه أمريكا وأذيالها في تركيا؟ ولماذا يكون أسلوب أولئك الأذيال هو حياكة المؤامرات و”محاولة” زعزعة استقرار تركيا والوصول إلى حالة إسقاط حكومة حزب العدالة؟
لأنّ الواقع يقول بأنّ التجربة السياسية التركية متمتّعة بنفوذ أقوى من نظيراتها التي تهاوت، ومن يظنّ أنّ المشاركة السياسية تعني – كما يفهم غالب العرب مع الأسف – مجرد الترشح للانتخابات والوصول للحكم؛ فهو واهم.
بل هي تحتاج إلى خبرة واسعة، وقبل ذلك إلى أدوات ونقاط قوة تحمي التجربة عند محاولة إسقاطها، وهذا أمر بدهيّ ولا بدّ من حدوثه لأنّ كل تجربة لا تتمتع بحماية ستتعرض للهجمات، كما أنّ كل إنسان أعزل يسير في غابة من الوحوش بحاجة إلى سلاح ما يحميه من تلك الوحوش.
إنّ مجرّد التفكير بإمساك زمام دولة ذات مقدّرات ضخمة تكون وكيلة على ثروات بلاد واسعة كتركيا أو مصر أو غيرها دون امتلاك نقاط قوة تضمن حماية القيادة السياسية الحاكمة ومنجزاتها؛ هو تفكير جنوني، أو تفكير مَرَضي قد ينتج بسبب الخوف من أمور أخرى. لكن النتيجة واحدة وهي: الفشل والسقوط القادم عاجلًا أم آجلًا.
ولذلك سقطت تجربة الإخوان في مصر، أي لكونها لم تعتمد أيًّا من نقاط القوة التي كان بالإمكان استثمارها، وكان الخيار الأفضل لمراكمة نقاط القوة في الحالة المصرية هو احتضان الثورة التي كانت لا تزال نابضة بالحياة، لا التنكّر لها والدعوة إلى المسار السياسي بمعزل عن حمايتها في الشارع كما فعل الإخوان.
لقد كان الاعتصام في الميادين لحماية منجزات الثورة وممارسة التوعية السياسية والفكرية للنخب والقواعد الشعبية للثورة هو الخيار الأقوى حينذاك، لتسير معه العملية السياسية بشكل مواز، ويكون بالإمكان تحقيق نتائج مرضية في الواقع من خلالها.
فالثورة والاعتصام في الميادين من جهة، والممارسة السياسية من جهة أخرى يشكّلان معًا معادلة فعّالة يمكنها السير في طريق التغيير للأفضل. الثورة تحمي الممارسة السياسية من الوحوش المتعطّشة للهجوم، والممارسة السياسية تستثمر ثقل الثورة في خطوات وقرارات سياسية تقوم الثورة بدورها بحمايتها من إبطال المفعول أو الانقلاب عليها، هكذا يتمّ الأمر، في دائرة مُحكمة من حيث النظرية، وينبغي أن تكون كذلك من حيث الواقع على قدر الإمكان.
إنّ المشاركة السياسية، أو الحراك السياسي، ليس مجرّد خوض “الانتخابات”؛ فالانتخابات – كممارسة – تكشف عن الواقع الموجود ولا تنشئه. بمعنى آخر: إنّ “الغالبية” – بالمفهوم الحقيقي لها – ليست هي الأكثرية العددية التمثيلية فحسب، بل هي مشتقة من “الغلبة”، والغلبة في الواقع السياسي تكون لمن يملك أكبر قدر من نقاط القوة في البلاد، سواء كانت قوة اجتماعية ثورية أو قوة اقتصادية أو قوة عسكرية، فالغلبة والغالبية تكون لمن يملك أكبر مجموع نهائي من “القوة” من جانب، ولمن يحسن الاستفادة من هذا المجموع بطريقة ذكية من جانب آخر؛ لتسخيره في تحقيق القيادة السياسية للمجتمع وبناء الدولة.
ومن هنا ليس من الغريب أن يكون معنى “الدّولة” اللغوي هو “الغلبة”. وهذا هو ما تحقّق فعليًا في دولة الإسلام الأولى؛ حيث استطاعت القيادة السياسية النبوية في المدينة المنوّرة تحقيق أكبر مجموع من القوى، والذي تمثّل بانحياز قيادات أقوى قبيلتين في المدينة للدعوة (الأوس والخزرج)، فهو من ناحية تحقيقٌ للإرادة الغالبة والتمثيل (“اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم” كما جاء في الحديث) وتحقيق للشوكة الغالبة من حيث امتلاك السلاح من ناحية أخرى، إذ لم يكن هناك وجود لظاهرة “العسكر المحترفين” في ذلك الوقت المبكّر من تاريخ الحجاز، بل كان المجتمع مُعَسْكرًا بطبعه.
من هذا الباب، إذا راجعنا تجربة الإخوان المسلمين في مصر بين 2011 – 2013، فسنجد أنّ حركة الإخوان أخفقت في إحسان الاستفادة ممّا يمكنها امتلاكه من عناصر مجموع القوة داخل المجتمع المصري، وتمثّل ذلك بانسحابها التدريجي الواضح من العملية الثورية فور سقوط رأس النظام “مبارك”، وخوضها لحراك سياسي ومعركة دستورية على طريقة “التوازنات”، وليس على طريقة حيازة عناصر القوة في المجتمع ومواجهة الدولة العميقة بها.
بل ومحاولة احتواء عناصر من تلك الدولة العميقة تارة، وتقديم التنازلات من أجل إسكاتها تارة أخرى. ولو استطاع الإخوان جذب الشارع الثوري والاحتشاد به مع سائر القوى الثورية المخلصة، لو استطاعوا تحقيق ذلك لكان المشهد مختلفًا عما نراه اليوم من مآس والله أعلم. ولكن لا يسعُنا إلا أن نقول: قدّر الله وما شاء فعل، وإنما نرصد الأخطاء لتجنّبها في المستقبل.
أما التفصيل في الشروط الموضوعية والشرعية للمشاركة السياسية فهو مبحث آخر أرجو أن أوفّق لنشره قريبًا، ولكن أردت هنا الإشارة إلى أخطاء شائعة في فهم طبيعة المشاركة السياسية وإسقاط فشل تجارب معيّنة –لم تستوف شروطها – على المشاركة بأسرها في كلّ ظرف ووقت، باعتبار أنّ الفشل كامنٌ فيها كممارسة، لا في التجربة وأخطائها.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست