عادت لواجهة النقاش العمومي بالمغرب مؤخرًا موضوع مآل النموذج التنموي الجديد وتجديد النخب السياسية المتهالكة، خصوصًا بعد الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش، الذي وضح فيه الملك محدودية النموذج التنموي الذي تبناه، وفشله الذريع في كسر حاجز الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية بين المغاربة، الأمر الذي يستدعي تمحيصه وإعادة بناء نموذج تنموي أكثر فعالية يلمس على أرض الواقع، لا تنمية يستفيد منها إلا «مجتمع 1٪».
يحتكرون الثروات وينعمون بحصانة السلطة ويستعبدون العباد في ضيعاتهم ومعاملهم، كما لمح أيضًا الملك في خطابه إلى عجز الأحزاب السياسية عن القيام بدورها كما ينبغي، وتحدث عن تقاعسها، وغيابها التام في لعب دور النيابة عن المجتمع.
هذا ما اتضح جليًا إثر الحركات الاحتجاجية التي شهدها المغرب في الأونة الأخيرة. نتخذ «حراك الريف» نموذجًا، الذي كشف بالملموس عن غياب المعبر السياسي وضعف آليات مؤسسات الوساطة بين الدولة والمجتمع، في تخفيف حدة الاحتقان واحتواء الوضع، فتركوا شبابًا في ريعان أعمارهم بصدور عارية وتصدع بحناجر صادقة مطالبين بمطالب اجتماعية مشروعة للمنطقة، في مواجهة «بطش وزراوط» جحافل من القوى اﻵمنية وهمجية «البلطجية» المسخرة، ليحدث استفزاز من هنا، وتجاوز من هنالك إلى أن تخرج الأمور عن سيطرتها الطبيعية وتعم الفوضى.
وبالتالي لم تعد هنالك مستويات وسيطة بين الأمن والنظام والفوضى، بل باتت المسألة تلقائية ومعهودة في أي شكل احتجاجي، في غياب شبه تام للوسطاء التقليدين بين المجتمع والدولة، «تظاهرات، عنف متبادل من قبل جحافل من القوى اﻵمنية و المتظاهرين، تدمير المرافق العمومية والخاصة، إصابات من كلا الطرفين، متابعات قضائية… إلخ»، ونعود لنقطة الصفر.
وبالتالي هنالك «حلقة مفرغة» يجب تكسيرها، وإلا ما فائدة ثلة الأحزاب السياسية؟ أم أنها مجرد «مقاولات سياسية» تخاذلت عن دورها الطبيعي ضمن المجتمع، وأصبح همها السلطة وحضن النظام وضمان رضاه، تدعي نفسها بديلًا ديمقراطيًا، وهي ما زالت غير قادرة على إعطاء موقف مستقل، نابع عن قناعات منخرطيها، وعن الاختيارات التي أفرزتها مؤتمراتها، بشكل حر دون إملاءات ودون اصطفافات نابعة عن مركب نقص أو عن خوف، حتى أصبحت تجمعات دون مشروع مجتمعي أو فكري، الولاء فيها للزعامات الحزبية.
كما ذكر الملك أيضًا خلال طيات خطابه، عن ضرورة إغناء وتجديد المناصب الحكومية والإدارية بكفاءات وطنية أكثر حنكة وكفاءة، ليذهب تفكير البعض آنذاك إلى طبقة التكنوقراط، أي تلك الطبقة المتخصصة غير المحزبة التي لا تتكئ على السياسة في التدرج، في ظل ضعف قيمة، وأي إضافة للنخب السياسية المتهالكة التي تخادلت عن دورها المركزي ضمن المجتمع، وأصبحت تحوم فقط حول حصانة وريع السلطة.
وهذا ما تم فعليًا من خلال ما يدعى «حكومة الكفاءات»، التي أحدثث إثر التعديل الحكومي الأخير الذي ضم بعض «التكنوقراطيين» الإقطاعيين، وتم تسريح العديد من الوزراء من مناصبهم الحكومية والإدارية، الذين أثقلوا كاهل الميزانية المتهالكة بحجم المديونية، التي أغرقت البلاد تحت رحمة ووصاية المؤسسات الدولية، إثر تسديدها لهم ما يقرب من 10 أشهر عن إنهاء الخدمة وتقاعد سمين مدى الحياة.
والملاحظ أن وصف «التكنوقراط» يثير حساسية مفرطة من لدن النخب السياسية، فهي نوع من الإدانة في حقهم، وأيضًا لاعتبارات أخرى، الأولى أن الحزب بمجرد ما يصل السلطة فإنه يقوم بتقسيم الغنائم على أعضائه «حقائب وزارية/ مناصب حكومية وإدارية»، وثانيًا لأن الحزب بمجرد أن يصل إلى سدة السلطة يقوم بتحويل القطاعات المخولة له إلى إقطاعيات حتى تتحول إلى «مزرعة للبقر»، عكس التكنوقراطيين الذين يقدمون حلولًا للقضايا العامة، وذلك وفق خبرتهم في الميدان الموكول لمسؤوليته.
وما بين معضلة الأحزاب السياسية المتهالكة، في إنتاج قدر معين من الكفاءات الوطنية، حتى صار البحث عنها داخل الأحزاب كحال من يبحث عن إبرة في محيط من الرمال، وتخاذلها عن دورها المركزي ضمن المجتمع وتأطيره سياسيًا، نفرت منها مبكرًا الكفاءات.
منها من هاجر لديار المهجر، وجزء آخر يعمل في القطاع الخاص، والجزء المتبقي صامت، فأصبحت وكرًا «لمن هب ودب»، خصوصًا أحزاب الإدارة. وتصاعد «التكنوقراطيين» ضمن المناصب الحكومية والإدارية حتى صار منهم من تم تلوينه بهذا الاسم تحت غطاء سياسي نتن. وزير المالية خير دليل، هل يؤشر لعهد جديد من الإصلاحات، أم فقط آلية لتفادي الانفجار الاجتماعي الحاد؟ وهو الذي يشهد «صفير طنجرة»، وتمدد الثورات الاحتجاجية في البلدان المغاربية والعربية.
شكل الملك محمد السادس لجنة خاصة لإعادة بلورة نموذج تنموي جديد بأطر أكاديمية غير محزبة ذات حنكة وكفاءة في مختلف الميادين ستنفذ توصياته من لدن الأحزاب التي لا تزال جزءًا من خرابنا، بعد الفشل الرديع للنمودج التنموي السابق وما تدرجه من مخططات وبرامج «مخطط التنمية المستدامة /مخطط المغرب الأخضر» في كسر التفاوتات الإجتماعية، وعجزه عن تخطي حاجز النمو الذي يتأرجح ما بين 1.5٪ و3 ٪ كأقصى حد سنويًا، وإغراق البلاد في مستنقع من المديونية المفرطة، التي تجاوزت ما يناهر 81٪ من الناتج الداخلي الخام، حتى بتنا تحت وصاية المؤسسات المالية الدولية وسياستها الليبرالية المتوحشة القائمة على الهيكلة والخوصصة، عبر سحب الدولة يدها عن القطاعات الحيوية للبلاد ورهنها بيد الرأسمال الأجنبي، في ظل خلفية تبعية للنظام الاقتصادي لاختيارات الليبرالية «فرنسا / الاتحاد الأوربي». يقدم مزايا وهدايا ضريبية للمستثمرين الأجانب وكبرى الشركات الليبرالية؛ مما يفقد النظام الضريبي توازناته الاجتماعية، بالرغم من الاستقلال «الصوري».
لكن السؤال المطروح هنا: ما الذي يجب صياغته في أي نموذج تنموي.. هل التنمية أم الديمقراطية؟ ودراسة التجارب المتواترة من دول جنوب شرق آسيا والصين وأمريكا اللاتينية، توضح أن التنمية لا يمكن أن تتكرس في مجتمع غارق في أبهى تجليات الجهل والخرافة ويسوده الاستبداد والفساد، ولا يمكن أيضًا تكريس الديمقراطية في مجتمع تتردى فيه أوضاع الناس في الصحة والتعليم وبنى الاقتصاد. فما قيمة حرية القول إن كانت ستقتصر على المطالبة بمطالب «خبزاوية»؟ وما قيمة العمل النقابي إن كان أعضاؤها يلوحون بالعوارض فالساحات للرفع من الحد الأدنى للأجور، وهو أصلًا في حده الأدنى وتتردى فيه أوضاع الطبقة العاملة؟
وعليه يجب بناء نموذج الديمقراطية الحقة القائم على فصل وتكامل بين السلطات وضمان الحقوق والحريات العامة، ونموذج سياسي ينظم الحياة السياسية ويجعل الحكومة والمنتخبين مسؤولين بشكل حقيقي أمام من صوت عليهم، وإزالة غطاء السلطة الدينية الممنوح للدولة لتصفية الحسابات السياسية لكل من يعارض خياراتها والسلطة البوليسية للإدارة المركزية.
ليست تلك الديمقراطية القائمة على مسطرة انتخابية من السهل التلاعب بها، ثم التنمية التي تضمن العدالة الاجتماعية لكل الأفراد تشعرهم بإنتمائهم الحقيقي للوطن، لا تنمية يستفيد منها إلا «مجتمع 1٪» يحتكرون الثروات والغنائم، وينعمون بحصانة السلطة، لأنه لا ديمقراطية بدون تنمية ستسبب لنا ديمقراطية شكلية ومعطوبة، وهذا نتاج تردي – وفشل – كل البرامج والمخططات على مر العقود، بتوظيف شعارات من قبيل «أجيال الإصلاح»، و«التوازنات المجالية» و«ربط المسؤولية بالمحاسبة»، حتى بتنا في مؤخرة الترتيبات العالمية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست