تسعى كل منظومة سياسية فاعلة للتعاطي مع محيطها الاجتماعي عبر طريقين مزدوجين:
الأول: يتمثل في تقديم خطاب يلامس واقع الجماهير، ويسعى لتلبية حاجاتهم، والثاني: يقوم على استقطاب الجماهير؛ لتفعيل الخطاب، والعمل على تحويله إلى برامج، وتنفيذها على أرض الواقع.
والطريق الثاني يُعرف في الأوساط السياسية: بالاستقطاب، وجوهر عملية الاستقطاب هو حشد طاقات الأفراد، وتعبئتها بطريقة منظمة؛ لدعم وتنفيذ برنامج سياسي محدد، “رؤية واحدة”، لذا فالاستقطاب لا يسمح بالتعدد، ولا بالتنوع، ولا يقبل باختلاف وجهات النظر؛ لأنه ينطلق من طهرانية الذات، وقداستها، وخطأ الغير وانحرافه.
والمشاهد للحالة السياسية في مصر يجد أن المنطق السائد الآن هو منطق: الاصطفاف السياسي، والتصنيف على الهوية الفكرية والسياسية، وهو منطق أثبت فشله في كثير من المجتمعات؛ لأنه دائما ما يخيرنا بين بديلين لا ثالث لهما، ودائما ما يفرض علينا منهج الفسطاطين: (فسطاط الحق، وفسطاط الباطل)، ودائما ما يضعنا في إطار قانون بوش: (من ليس معنا فهو ضدنا). (وإما كل شيء صحيح، أو لا شيء صحيح) وهو دائما يصيغ البدائل بصورة حدية بالغة الانقسام.
وهذا النوع من الاستقطاب السياسي الحاصل استقطاب لا تحكمه القناعات العقلية الراسخة أو البرامج الفكرية المحددة، بقدر ما يحكمه نظام الولاءات السياسية والتنظيمية، أو منطق (جماعات الشِّللية والمصالح)، ولذلك فأنت تستطيع أن تعرف مكونات الاصطفاف السياسي من كل قضية، حتى قبل أن يعرض كل طرف حججه ومستنداته الفكرية.
إن تجارب المجتمعات والدول غيرنا علمتنا أنه في “نظام الاستقطاب” الكل خاسر على المستوى الاستراتيجي، حتى من يفوز في المعارك الصغيرة، قد يحقق طرفا مزيدا من الغلبة السياسية، وقد يحقق نوعا من النصر الزائف بإقصاء المخالفين، لكن على المدى البعيد من يقصي يراهن على غياب الآخر، ومن يراهن على غياب الآخر يعمل كل الآخرين على إلغائه، وليس غيابه، ومن هنا يخسر الجميع.
وقد رسم الشاعر ماجد المجالي الأردني في قصيدة اللوزمية التيسية المعمعية، والتي مزج فيها النقد اللاذع بالسخرية السوداء صورة رمزية تبين أن هناك فرقا بين الولاء الأحمق والولاء الأعمق، وبين أن هناك الولاء الأحمق، يقصد به أن تصفق لكل شيء، وأن تقول نعم لكل شيء، أما من يرصد الأخطاء، ويعمل على تصويبها، فهو أمر غير مرغوب فيه في كثير من التنظيمات السياسية، فقال:
نحن مَعْ دوماً ، ودومًا نحن مَعْ ….. كُلّمـا أقبـل تيسٌ صــــــاح مَعْ
قلت : مَعْ من ؟ قــال : مَـعْ ….. كل مـا نقـصـــــد خير المجتمَعْ
نحن معْ رمزٌ بـهِ وحـدتنـا ….. فرّقَ الشــــعب لدينـــا أو جمَـعْ
أشعـلوا أوطاننـا سيجـارةً ….. اشغلوا المخــــتار في جمع القُمَعْ
فاحفظوها ردّدوهـا دائـماً ….. نحن مَعْ مَعْ نحن مَعْ مَعْ نحن مَعْ
وقد ترجع الأسباب التي تمنع أبناء كل تنظيم سياسي من تقييم المسارات بموضوعية، والتعامل بتسامح مع وجهات النظر المخالفة إلى الأسباب التالية:
1- تغليب العقلية التجييشية أوالإحمائية (الشحن العاطفي) (شعارات الحماسة وشيطنة الخصم).
2- الخلط أحيانا بين النموذج الإسلامي المعصوم والمقاربة البشرية في فهمه وتنزيله، وتصور أن التجربة التاريخية والمعاصرة لأية جماعة إسلامية صوابا دائما هو خلل أصولي وتربوي وحركي.
- خلل أصولي: لأنه يفترض الصواب المطلق، إلا في المقطوع به.
- وخلل تربوي: لأنه تزكية للذات الفردية والجماعية بالمعنى السلبي ويغيب عنها عرف القسط (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).
- وخلل حركي: لأن الحركة التي يغيب عنها النقد والمراجعة تقع في الجحر مائة مرة.
3- ما تصاب به بعض العقول ما يمكن أن نطلق عليه (عقلية الانبهار)، ونقصد بها الحالة التى تتجسد في بعض من ينتسبون لحزب سياسي أو جماعة دينية، فينظرون لكل قول أو فعل أو تفاعل مع حدث لهذا الحزب أو تلك الجماعة، بانبهار تام وإعجاب مدهش مع إضفاء درجة من التقديس أو التنزيه على القررات أو التصورات، فكل فعل فتحا قريبا، وكل قرار حلا سحريا للمعضلات والمشكلات، فلا يعترف بخطأ ولا يتهمها بعيب ولا بنقص، فهم يرون أن رأي حزبهم أو جماعتهم هو الحق، ودونه على الباطل، جاعلين إياه فوق النظر النقدي أو المراجعة الحقيقية، فلا ينظر في مدى صواب الخطوات وسلامة السير وصحة المواقف.
فيمقتون أي لون من ألوان المراجعة والتصحيح، بل إنهم يعدون ذلك في كثير من الأحيان جريمة ومروقا، وينعتون من يفعل ذلك بالخارج عن الالتزام الحزبي، أو المارق من البيعة. وقد يوالي ويعادي على أساس موقف الآخرين وموافقتهم أومخالفتهم لحزبه أوجماعته.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي : (إن المتعصب إنسان لا يرى إلا ذاته، ولا يسمع إلا قول نفسه، ولا يؤمن بأحد غيره، أو غير فرقته وجماعته التي ينتمي إليها، فمنها يبدأ، ومنها ينتهي، فهو مغلق الذهن والنفس عن الغير، وكل الناس غير، ما عداه وفرقته التي منحها عقله وشعوره وولاءه، فهي التي تفكر له وتحدد له من يحب ومن يكره، وعمن يرضى وعمن يسخط دون أن يعطي نفسه حق التأمل في هذه المقولات أو الامتحان لها أو مناقشتها، فهذا كفر) وقد تستفحل هذه الحالة فيصل هذا الانبهار بالمرء إلى حد العَمَى عن إدراك الحق، فتصير معوقا ذاتيا يحجب عن الفرد الرؤية الواضحة للأمور، وتمنعه من النظر في الأحداث، وتعوقه عن المشاركة الفعالة في بناء أمته ورقى مجتمعه.
إننا في حاجة اليوم إلى كثير من الجهد، وكثير من العمل، وإلى عدد كبير من الأفكار والوسائل والرؤى التي يمكن بواسطتها إعادة صياغة تشكيل وبناء عقول أبناء هذه الأمة، ليكون كل فرد من أبنائها قادرا على المشاركة برأيه وفكره في كل قضية، صغرت أم كبرت، دقت أم عظمت، قادرا على المشاركة الفعالة في إدارة دفة المجتمع ومساهما في بناء حضارة ورسم مستقبل أمته. فإن النهضة الحقة لا تتحقق بعقول عليلة، والنصر لا يتحقق بعقول عقيمة.
فاستُعير ذلك للبشر الذين يسودهم مستبد ينقادون له، فيُخضع هو بعضَهم فقط ، فيَخضع الآخرون بالعقل الجمعي ! كما يخضع القطيع بالعقل الغريزي ! فيشرّق بهم و يغرب دون اعتراض منهم و دون دراية باسباب ذلك و لماذا يفعلون هذا.
هذه الطبيعة تشير الى إستقالة الشعوب من مهام التفكير و تدمير إرادتها و تحطيم معنوايتها و قدرتها على تكوين الدواعي و الدوافع إذ لا يبقى من دوافعها إلا دافع الإستجابة لقائد القطيع و ما مزرعة الحيوان عنا ببعيد.
قلت : أذن أيها الحكيم، فماعلاجها… فاستُعير ذلك للبشر الذين يسودهم مستبد ينقادون له، فيُخضع هو بعضَهم فقط ، فيَخضع الآخرون بالعقل الجمعي ! كما يخضع القطيع بالعقل الغريزي ! فيشرّق بهم و يغرب دون اعتراض منهم و دون دراية باسباب ذلك و لماذا يفعلون هذا.
هذه الطبيعة تشير الى إستقالة الشعوب من مهام التفكير و تدمير إرادتها و تحطيم معنوايتها و قدرتها على تكوين الدواعي و الدوافع إذ لا يبقى من دوافعها إلا دافع الإستجابة لقائد القطيع و ما مزرعة الحيوان عنا ببعيد.
قلت : أذن أيها الحكيم، فماعلاجها… فاستُعير ذلك للبشر الذين يسودهم مستبد ينقادون له، فيُخضع هو بعضَهم فقط ، فيَخضع الآخرون بالعقل الجمعي ! كما يخضع القطيع بالعقل الغريزي ! فيشرّق بهم و يغرب دون اعتراض منهم و دون دراية باسباب ذلك و لماذا يفعلون هذا.
هذه الطبيعة تشير الى إستقالة الشعوب من مهام التفكير و تدمير إرادتها و تحطيم معنوايتها و قدرتها على تكوين الدواعي و الدوافع إذ لا يبقى من دوافعها إلا دافع الإستجابة لقائد القطيع و ما مزرعة الحيوان عنا ببعيد.
قلت : أذن أيها الحكيم، فماعلاجها…
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست
علامات
الاستقطاب