هناك دائمًا أحداث مفصلية بالتاريخ، كانت حاسمة في قلب مسار ومصير الكائن البشري رأسًا على عقب. أولها بالتأكيد كانت حادثة أبينا آدم مع الشجرة المحرمة، وكلنا يعرف النتيجة الدرامية لها. وطوفان سيدنا نوح الذي غيَّر وجه الأرض جيولوجيًا وبيئيًا للأبد، كما يُعتقد أنه غيَّر حتى في متوسط أعمار الإنسان التي كانت تقدر بالألف سنة قبل الطوفان، ثم أصبحت اليوم بالمتوسط ثلاثًا وسبعين سنة فقط حسب آخر تقرير للأمم المتحدة. ومواجهة سيدنا موسى لفرعون التي غيَّرت مفاهيم السياسة ليومنا هذا، وصاغت تعريفًا محددًا للطاغية، وفسرت خنوع المستضعفين له ولأي مستبد. ثم نزول الإسلام ذلك الدين الخاتم الذي أكمل الله به لخلقه على يد نبيه محمد (عليه الصلاة والسلام) كل ما يجب أن يعرفوه استعدادًا ليوم الحساب الموعود، وغيَّر به خريطة العالم السياسية.
توالت الأحداث، وانهارت إمبراطوريات وعلت أخرى. وما فتح عمر بن الخطاب للقدس وفتح الأندلس لاحقًا، إلا بمثابة تدشين لعملية التحول الجذرية تلك، والتي كانت لها ما بعدها من توارث كراهية الغرب للإسلام الذي سلبه مقدساته وهيمنته من وجهة نظره، مما أشعل بسهولة فيما بعد جذوة الحملات الصليبية، التي لا تزال روحها الشريرة حتى يوم الناس هذا كامنةً بأعماق زعماء الإسلاموفوبيا المعاصرين.
ولا شك أن فتح القسطنطينية، وإسدال الستار نهائيًا على إمبراطورية الروم كان أيضًا حدثًا جللًا، حتى إن معظم المؤرخين يعدُّونه تأريخًا لنهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة. تلك العصور التي شهدت تطورات تكنولوجية سريعة غيَّرت حياة البشرية جذريًا. أولها كانت بالطبع اختراع آلة الطباعة على يد الألماني يوهانس جوتنبرج، التي تُعد من أهم اختراعات البشرية على الإطلاق، فبفضلها أصبحت القراءة حرفيًا في متناول الجميع. ثم اختراع المحركات البخارية؛ الشرارة الأولى للثورة الصناعية التي حولت معظم المجتمعات من مجتمعات زراعية ريفية إلى مجتمعات صناعية حضرية، مما كان له شديد الأثر في تغيير شكل الحياة على وجه الأرض بيئيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وقسَّم العالم منذ ذلك الحين، وحتى يومنا هذا إلى دول صناعية استعمارية ومتقدمة، ودول عالم ثالث منهوبة ومتخلفة.
أخيرًا جاءت ومع اقتراب الألفية الثالثة، ثورة تكنولوجية هائلة وهي التكنولوجيا الرقمية، التي غيَّرت مرة أخرى نمط الحياة إلى شكل جديد لم يعهده الإنسان من قبل، وجعلت من العالم كله قرية صغيرة بفعل الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات. ليس هذا فحسب بل غيَّرت تمامًا مفاهيم العمل وثقافة التواصل الاجتماعي بشكل خطير. وتزامنت مع تلك الثورة قامت ثورةٌ أخرى لا تقل عنها خطورة، ألا وهي الثورة الجينية، مع توصل الإنسان لفك الشفرة الوراثية للكائنات الحية، وبدء نوع مستحدث تمامًا من الهندسة يعرف بالهندسة الوراثية. تلك التقنية التي أتذكر عندما بدأت، تم التبشير حينها بقدرتها على حل معضلة جميع الأمراض الوراثية والسرطان، والقضاء على مشكلة الجوع ونقص الغذاء في غضون سنوات قليلة. لكن لم ينقضِ عقدان أو ثلاث إلا وواجهت البشرية عوضًا عن ذلك نوعًا جديدًا من الأوبئة الفتاكة، والتي تدشن بذلك حقبة جديدة من حياة البشرية بسمات ومعالم غريبة لا نعلم إلى أي شيء ستفضي.
جائحة كورونا التي يعيشها العالم حاليًا وما صاحبها من كوارث صحية واقتصادية واجتماعية لم تكن وليدة اليوم بالتأكيد. بل سبقها وباء سارس عام 2002، ووباء ميرس عام 2012. وفي الحالات الثلاثة، يتم الزعم أن المصدر هو فيروسات تسمى كورونا، وتستوطن أصلًا الخفافيش، ثم تحولت بشكل طبيعي لمهاجمة البشر. لكن ما زال الشك يساور العديد من العلماء والخبراء، أن أنشطة معملية مرتبطة بالتقنية الحيوية كانت لها يد في تشكيل هذه الفيروسات المستجدة، التي لم يُثبِت أحد، بالدليل العلمي مسارًا طبيعيًا لتحولها من استيطان الحيوان إلى استيطان الإنسان. صحيح أن الطفرات الوراثية التلقائية – أي دون تدخل بشري – قد تحدث للفيروسات وتُعدِّل بذلك من تركيبها البروتيني، يجعلها نظريًا تُغيِّر نوع العائل الخاص بها، لكن العلم يوفر طرقًا وبروتوكولات محددة لتتبع هذا المسار وبدقة، سواءً أكان تحول الفيروس من إصابة كائن إلى كائن آخر تم بصورة مباشرة، أو تم عن طريق كائن وسيط. وحتى اليوم لم يتم إثبات هذا المسار المباشر أو غير المباشر لتحول فيروس كورونا من الخفافيش إلى البشر.
لكن يتساءل العديد من العلماء، ما هو الغريب أصلًا، في إبقاء نظرية النشأة المعملية لفيروس كورونا في حيز الافتراض والتكهن، حتى يتم بطلانها علميًا بإيجاد التفسير المنطقي الحاسم في نشأته الطبيعية، ويستنكرون كل هذا الهجوم غير المبرر، والحظر التام من عموم المجتمع العلمي الدولي، وليس فقط الصين، لأي رأي علمي يصب في احتمال أن يكون هذا الفيروس تم تصنيعه في المعمل، أما كونه قد تسرب إلى خارج المعمل عمدًا أو عن طريق الخطأ فهذا افتراض آخر غير مرتبط بالأول، ويحتاج هو نفسه لتحقيق شامل ومستقل.
فالطبيعي والمألوف من البشر أن يتسببوا في أخطاء، وأحيانًا كارثية. وإلا لادَّعى الاتحاد السوفيتي عام 1986، حدوث كارثة طبيعية أدَّت إلى كارثة تشرنوبل، كزلزال أو إعصار أو بركان، وليس خطأً بشريًا، كما كان الحال مثلًا بتسبب زلزال وتسونامي لاحق له في كارثة مفاعل فوكوشيما الياباني. ويوجد قائمة طويلة من الكوارث الأخرى التي تسببت فيها أخطاء بشرية ونجمت عنها خسائر هائلة بالأرواح والأموال، مثل تسرب غازات السيانيد القاتلة إلى الهواء، أو المعادن الثقيلة السامة إلى التربة، أو كميات هائلة من البترول الخام إلى البحر. في كل تلك الحالات لم تدَّع الجهة المسؤولة نشأة طبيعية للكارثة، بل اعترفت بوجود خطأ بشري ما، أدَّى إلى حدوثها. كون هذه الجهة أو تلك امتلكت لاحقًا الشجاعة لتحمل المسؤولية الكاملة الأدبية والمادية للخسائر أم لا، فهذه أيضًا قضية أخرى.
لكن بالعودة لجائحة كورونا، وبالقياس لما عهدناه من البشر بارتكاب الأخطاء، فإن نظرية نشأة الفيروس معمليًا يجب أن تحظى بمزيد من البحث والتدقيق بدلًا من الحظر والتسفيه. خاصةً عندما نعرف أن نقطة البداية وهي مدينة ووهان، لا تستوطنها في العادة الخفافيش، ولا كانت من الكائنات المألوفة في سوق ووهان للحيوانات البرية، البؤرة المتهمة بنشر هذا الفيروس للعالم، وكما أسلفنا لم يتوصل أحد حتى اليوم إلى تقديم دليل علمي يؤكد نظرية تحول عائل فيروس كورونا طبيعيًا بإيجاد الحلقات المفقودة لهذا المسار. لكن بالمقابل يوجد أدلة دامغة لا تقبل التشكيك لوجود معمل بالمدينة نفسها؛ موطن الفيروس، وهو معمل ووهان، للفيروسات، المتخصص منذ سنوات طويلة في دراسة جميع سلالات فيروس كورونا، بل ويعد مرجعية عالمية في هذا المجال. ومن الثابت أيضًا ومن خلال المنشورات العلمية السابقة للمعهد، أنه قد توصل علماؤه، وبالتعاون مع باحثين أمريكيين عام 2015، لهندسة فيروس مستجد، هجين بين المادة الوراثية الأصلية لأحد سلالات فيروس كورونا، وبين جين مسؤول عن التعرف إلى خلايا الجهاز التنفسي للإنسان ومهاجمتها، هذا المسخ الجديد الذي تم نشر تفاصيل تخليقه، بالغرض المعلن، تنبيه للرأي العام العالمي لاحتمال حدوث هذا السيناريو بالمستقبل لكن بمسار طبيعي، أصبح له القدرة على غزو الخلايا البشرية وبشكل عنيف.
بالطبع لا تسمح مساحة المقال لسرد جميع الشواهد والفرضيات العلمية التي قد ترجح النشأة المعملية لهذا الفيروس المسبب لهذا الكابوس الذي تعيشه البشرية حاليًا، لكن بالبحث السريع على شبكة الإنترنت سيجد القارئ المهتم العديد من المنشورات والمقالات العلمية التي تشكك في نظرية النشأة الطبيعية وتميل لاتهام معمل ووهان تحديدًا بالتسبب في هندسته، ولاحقًا في تسربه من المعمل عن طريق الخطأ، ولم يتهمه بالمناسبة أحد تقريبًا بتعمد التسريب لهذا الفيروس الخطير في إطار من الحرب البيولوجية على سبيل المثال. حتى وإن كانت نظريًا على الأقل، مفتوحة للنقاش، بالنظر مثلًا إلى خسائر الصين البشرية القليلة مقارنة بغيرها من الدول، بالرغم من كثافة سكانها الأعلى عالميًا، وبالنظر لكونها الاقتصاد الوحيد من بين الاقتصادات العالمية الكبرى الذي سجل نموًا في عام 2020، وفقًا لتقرير لـ«البي بي سي».
بالنهاية، سيسجل التاريخ بلا أدنى شك جائحة كورونا بأحرف عريضة كحدث سيغير كثيرًا من أحوال العالم في جميع المجالات. فلا أحد يعرف تحديدًا كيف يمكن للدول وخاصةً الفقيرة منها، التعافي من آثار هذا الوباء الكارثية على المدى القريب. فالأمم المتحدة قدَّرت الخسائر المباشرة على الاقتصاد العالمي بحوالي 8.5 تريليون دولار، أما الديون فزادت بقيمة 24 تريليون دولار عما كانت عليه قبل الجائحة وفقًا لمعهد التمويل الدولي ببريطانيا، وتم فقدان 255 مليون وظيفة حسب آخر تقرير لمنظمة العمل الدولية.
لكن أشد الآثار الجانبية دمارًا، هو بالتأكيد لجوء حوالي 1.5 مليار طالب وطالبة على مستوى العالم، للتعليم المنزلي أو ما يعرف بالتعليم عن بعد، والذي سيكون له آثار سلبية هائلة على تطور ونمو الجيل القادم من الناحية البدنية والنفسية والذهنية والاجتماعية؛ بل والعلمية. فمن الناحية البدنية من البديهي أن نتوقع زيادة مرعبة لأمراض السمنة والدورة الدموية تأثرًا بتوقف النشاط البدني نتيجةً للغلق المستمر الآن وللسنة الثانية على التوالي، وحتى إن خففت بعض الدول هذا الغلق، فلم تعود الحياة الدراسية ولن تعود ربما لمستوى ما قبل الوباء في القريب العاجل. ومن الناحية النفسية تشير آخر الأبحاث إلى تزايد كبير لحالات القلق والملل والاكتئاب والعنف والخلافات الأسرية، بين الأطفال نتيجة غلق المدارس، خاصةً بالأسر التي يعمل فيها كلا الوالدين.
من الناحية الذهنية، يجمع معظم خبراء التدريس على قصور التعليم عن بعد في تعويض الطلاب للجرعة التفاعلية التي يتمتعون بها في الفصل المدرسي، مما سيكون له شديد الأثر على تنمية قدراتهم الذهنية ومهاراتهم الفكرية بالمستقبل. الأسباب نفسها هي التي ستؤثر سلبًا على صحتهم النفسية، واندماجهم بالمجتمع بفعل انعزالهم عن أقرانهم وفقدان الصداقات التي تمثل قطعًا، حجر الأساس في بناء الشخصية والقدرة على التواصل الاجتماعي بشكل طبيعي.
أما التأثيرات العلمية فتتفاوت بالتأكيد من نظام تعليمي لآخر، ومن بلٍد لآخر، حسب التزام المدرس والطالب معًا بالجدول الدراسي الافتراضي، وحسب قدرة البنية التحتية الرقمية للدولة والمجتمع على مواكبة هذا النظام التعليمي الجديد، والذي يتطلب سرعات عالية للإنترنت، وأجهزة حاسوب منزلية لا يقدر عليها في الغالب معظم العائلات خاصةً بدول العالم الثالث. والنتيجة تراجع شديد في الحصيلة العلمية، سيظهر أثرها السلبي دون شك في المستقبل القريب.
نختم بالقول، إن هذا الوباء قد حصل بالفعل، وهو أمر واقع ولن يعود الزمن للوراء، المهم الآن هو، أولًا: معرفة مصدره الحقيقي كي تتجنب البشرية تكراره مرةً أخرى، ثانيًا: يجب وقف كل أشكال الحظر العلمي بإعطاء مساحة لجميع الآراء في شأن الجائحة حتى تتضافر الجهود بحق للسيطرة عليه، ثالثًا: وضع معايير أخلاقية صارمة للبحوث الجينية، وخاصة، تلك المتعلقة بإحداث طفرات وراثية لمسببات الأمراض وهندسة جيناتها، وفرض رقابة دولية على هذه الممارسات، لأنها ليست من قبيل السيادة الوطنية فالجميع متضرر كما نرى. رابعًا: مد يد العون فورًا سواء بالدعم أم بإسقاط الديون للدول الفقيرة، التي كما هو الحال في قضية تغيُّر المناخ، ليس لها ناقة ولا جمل في أسبابها، لكنها أول المتضررين منها، كما أنها هي من عانت طويلًا بالماضي من نهب ثرواتها لصالح الدول التي تمتلك الآن رصيدًا ماليًا يكفل لها على الأقل الوجود والبقاء رغم الجائحة. خامسًا: إعادة النظر وبشكل لا يحتمل التأجيل في مسألة غلق المدارس ودراسة المكسب والخسارة، لا سيما مع توافر اللقاح الذي يُفترض أن يحمي الكوادر التعليمية والإدارية، وفي ضوء ما نعرفه حتى الآن من عدم وجود الطلاب، خاصة الفئة الأصغر عمرًا منهم، في الشريحة العالية المخاطر بالنسبة للإصابة بالفيروس، وموازنة ذلك بالمخاطر الجمة التي تنتظر شبابنا؛ عماد المستقبل، إذا استمرت زيارة هذا الضيف الثقيل أطول من ذلك.
نعم هي حقبة جديدة بلا شك تعيشها البشرية الآن، وما زال بيدنا أن نرسم ملامحها المستقبلية، فإما أن يفلت الزمام وتصبح حقبة كارثية على الجميع وبالأخص على الدول الفقيرة، وإما أن تكون نقطة تحول لحقبة تسود فيها الشفافية، والنزاهة، والرقابة الأخلاقية، والعدالة الاقتصادية، حتى لا تتسع الهوة أكثر مما هي عليه اليوم، بين دول تتسبب في كوارث وتزداد غنى، ودول تتفرج فقط وتزداد فقرًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست