إن الأزمات المتتالية في تشكيل الحكومة العراقية السابعة بعد خمسة أشهر منذ استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، وما سبق ذلك من مجريات، وأخرى لاحقة تصدرت المشهد السياسي العراقي ولا زالت.
يمكن القول إنه هو نتيجة حتمية لتطور تاريخي مهم قد يكون تم تجاهله من الكثير من المتابعين أكثر من كونه حقيقة مغيبة، هذا التطور التاريخي هو من يحكم إدارة المشهد اليوم، ومن خلاله ترسم الخارطة السياسية العراقية الحالية والقادمة والسبب في كل الأزمات الناتجة.
حيث إذا ما ذا عدنا إلى التاريخ قليلًا، وخاصة السياسي الشيعي، باعتباره المتنفذ في إدارة الدولة، نجد ان هذا التاريخ مر بمنعطف جديد حيث إذا ما تم اعتبار الغزو الأمريكي للعراق هو المنعطف البارز في التاريخ السياسي الشيعي وصورة الحكم في العراق الحديث، نجد بأن انتخابات ما بعد «داعش» هي المنعطف الأبرز في هذا التاريخ، والأكثر أهمية في رسم مستقبل الخارطة السياسية العراقية إلى حد تمارس أدوار فوضوية أكثر من أي وقت سبق.
حيث بشكل أو بآخر أدت مجريات «داعش» إلى تعاظم النفوذ السياسي الشيعي في العراق بشكل لم يسبق له مثيل، وتعاظم النفوذ هو نتيجة حتمية وراء ولادة ملامح سياسية جديدة وولادة وجوه سياسية جديدة ونشوء جيل متقدم من الأزمات السياسية والمواقف الجديدة أيضًا، يمكن أن نلتمس التأثيرات التي مارسها هذا النفوذ بشكل موجز من خلاله أيضًا يمكن أن نتصور نجاح حكومة الكاظمي من عدمه، وأي حكومة مرتقبة أخرى، ومصير الواقع السياسي العراقي عموما وما يؤول إليه.
المكونات الأخرى صوت خافت!
كان للمكون السني صوت يكاد يكون مسموع قبل تعاظم النفوذ الشيعي، وتحديدًا قبل مجريات «داعش»، لعل ذلك كان يتمثل في وجود تعدد في هذا المكون ونوع من القرار اقوى مما عليه الآن، إذ كان يمتلك في أسوأ الأحوال جزئية في صنع القرار وتشكيل الحكومة وتمرير بعض القرارات الروتينية للدولة.
في حين اليوم جراء هذا التعاظم الموقف اختلف كليًا لاسيما مع السيطرة على المشهد السني من قبل (محمد الحلبوسي) رئيس البرلمان العراقي الذي حظى بدعم المكونات الشيعية بشكل يكاد يكون مطلق، ليكون الوجود السني جراء ذلك هماشيًا إلى كبير، كما عبر عنه رئيس كتلة الحل جمال الكربولي في تغريدة له على موقع «تويتر» قائلًا: «من نكد الدنيا ان يتحكم الهواة بمصير السنة، فيتنازل أحدهم عن وزارت المكون لأحد (اللواعيب) وكأنها ملك لأبيه» متهمًا الحلبوسي بالتنازل عن وزرات المكون السني.
وبالنسبة للمكون الكردي لعل اليوم موقفه لم يطرأ عليه تغيير كبير سوى دخول كركوك ضمن صراع الاقليم والحكومة المركزية بعد السيطرة عليها من قبل الحكومة المركزية في فترة رئاسة حيدر العبادي، بالإضافة إلى المضايقات المالية المستمرة، الامر الذي اعتبره الكرد مكلف لتاريخ القومية الكردية ومصالحهم في العراق.
البيت الشيعي انقسام متجدد
إذا ما استمر النفوذ الشيعي في التعاظم لعل يكون البيت الشيعي ذاته هو الأكثر تضررًا جراء هذا النفوذ، إن تعاظم النفوذ الشيعي أدى إلى دخول أطراف جديدة إلى البيت الشيعي سواء على شكل ميليشيات أو أحزاب أو شخصيات.
أصبح لعدد من هذه الاطراف الجديدة دورًا يكاد ينافس مؤسسي البيت الشيعي القدامى، حيث بات لتلك الأطراف نفوذ وسلطة متنامية إلى حد كبير، ونشوء ما يسمى بالتنافس المذهبي بين هذه الأطراف من تبني مواقف وشعارات خوية كالعداء ومواجهة الوجود الأمريكي، أو إخضاع السياسة العراقية إلى تأثيرات ومصالح الجمهورية الإيرانية، او نهب مؤسسات الدولة للحصول على مكاسب مادية شخصية من خلال صفقات فاسدة، فضلًا عن منافسة الشرسة بين تلك الأطراف.
إن هذا التعاظم أدى بشكل أو بآخر إلى زيادة الانقسام داخل البيت الشيعي ذلك البيت الذي لا يتحمل بطبيعته شركاء كثر، ولعل ملامح هذا الانقسام بدأ على شكل الحرب الباردة، إذ فضلًا عن سعير التصريحات والاتهامات المتبادلة، ذهب عدد من تلك الأطراف إلى تكريس نفوذها في الشارع العراقي، من خلال القيام بانتهاكات وجرائم تجاه أي مواطن تحت سيطرة نفوذها إذا ما قام بالتعبير عن رأيه تجاه هذه الجهات، كوسيلة ورسالة إلى الشركاء داخل هذا البيت الشيعي أكثر من كونها ممارسات قمعية تمارسها مليشيات وأحزاب دموية.
وعلى صعيد أوسع فإن تعاظم النفوذ سوف يكلف العراق مشكلات اقتصادية وامنية وسياسية كبيرة، فإن تلك الأطراف اعتادت على المال السهل وعلى السلطة والنفوذ ومن أجل أن تبقى كذلك؛ فأنها مستعدة للقيام بأي شيء.
ولهذا يمكن القول إن نجاح حكومة الكاظمي يكاد يكون معدومًا للأسباب الواردة أعلاه، فإن النجاح في إقامة حكومة وطنية تستطيع معالجة المشكلات التي يعاني منها العراق وإنقاذها يتطلب مقومات لا يمكن توفرها أو حتى الحديث عنها في ظل هذا النفوذ، ولا أي حكومة قادمة، فالنجاح ليس عملية تفاعل كيمياوي في المختبر كما تروج بسخرية البرامج التي حملها المكلفين في رئاسة الوزراء.
أما من يذهب إلى التعويل إلى عوامل أخرى قد تكون سببًا في نجاح هذه الحكومة، والمقصود بها العوامل الخارجية كالعامل الأمريكي والإيراني وتأثيرهما، إذ لا شك أن السياسة العراقية يحكمها انعكاس المصالح الإيرانية والأمريكية وسياسة كل منهما، وتبقى الأطراف العراقية السياسية مجرد أدوات تجاه هذه العوامل.
ولمناقشة ذلك يتضح بأن إيران بعد النفوذ الذي حصلت عليه في العراق بشكل لم يسبق له في تاريخها المعاصر إلى حد تصريح مستشار الرئيس الإيراني في عام 2015: «إن العراق أصبح عاصمة الإمبراطورية الفارسية باستمرار زيادة نفوذها في المنطقة»، ويمكن تصور النفوذ الذي وصلت إليه إيران بعد خمس سنوات من تاريخ هذا التصريح وحجم التأثير الذي تمارسه اليوم في العراق.
لذا نجاح الحكومة المنشود هو مهمة وطنية في كبح النفوذ الإيراني وهذا كلنا على يقين بأنه غير متوفر، ولهذا يذهب العديد في التعويل على الموقف الأمريكي وسياسته في حل الأزمة العراقية والحد من تمادي الأطراف المسيطرة داخل البيت الشيعي، لا سيما مع قيام تلك الأطراف باستهداف الوجود الأمريكي.
إن هذا القول ممكن الحصول وإنه قد يساهم في إعادة التوازن والانتقال إلى مرحلة أقل مأسوية، لكن الذي لا شك فيه أن المصالح الأمريكية الإيرانية والصراع الدائر بكل تأكيد ليس من أجل سلامة بغداد انما من اجل مصالح طهران وواشنطن، يضاف إلى ذلك ان السياسة الأمريكية في العراق لا زالت غير واضحة، ولا تفسير لها سوى بأنها قد تكون فعلًا تنازلت بالعراق إلى الجمهورية الإيرانية ضمن إطار المفاوضات الدائم بينها وبين إيران، أو أنها تمتلك مخططًا إستراتيجيًا تجاه العراق غير معلوم زمنية التنفيذ، وهذا أيضًا لا يعول عليه كثيرًا أيضًا في ظل الأزمات المتفاقمة.
لهذا تكاد إمكانية نجاح حكومة الكاظمي ذلك النجاح الذي نعني به سيادة وطنية والقضاء على الفساد وعودة العراق إلى المحيط العربي كدولة لها اعتبارها بما يتلاءم مع مكانتها التاريخية ومقدراتها الوطنية أمر مستبعد في ظل المعطيات المذكورة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست