لا يمكن للشيعة التخلي عن فصائلهم المسلحة مهما حصلوا على مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية في دولهم، سواء في العراق أو لبنان أو اليمن، لا يفكرون أبعد من تأسيس جيوش موازية داخل دولهم، لأن وجود الفصائل المسلحة هو الضمانة الحقيقية لطائفة ترى نفسها أقلية وسط فائض من الدول السنية، فإن كان للكرد جيش مقدس اسمه «البيشمركة» في العراق، وقوات «حماية الشعب» في سوريا، لماذا لا يكون للشيعة جيوش مقدس اسمها «فصائل المقاومة»؟
حتى وإن سيطر الشيعة على مقاليد الحكم ما زالوا يعانون من فوبيا فقدان سطوتهم على الدولة، ويعتقدون أن الأحوال قد تتغير في أي لحظة ويخسرون ما تعبوا على بنائه سنوات، ففي العراق لا يرون ببناء الدولة سوى تقديم خدمة مجانية لخصومهم الذين سوف يستولون عليها عاجلًا أم آجلًا بمساعدة خارجية، غالبًا ما يطلق عليها تسمية «مؤامرة صهيوأمريكية خليجية».
ولأن الشرق تطغى عليه ثقافة القوة، يعد الإمساك بمفاتيح القوة العسكرية هو المحرك الأساسي لتحقيق الأهداف، لذلك عمد الشيعة إلى تأسيس قوتهم الخاصة بهم مكونة من مجموعات صغيرة خارج نطاق الحكومات التي يعيشون تحت ظلها، يطلق عليها تسمية «فصائل المقاومة»، ولا تخفي هذه الفصائل ارتباطها وولاءها للجمهورية الإسلامية في إيران منطلقة من نظرية «ولاية الفقيه»، ويبدو ذلك واضحًا في لبنان التي تأسس فيها حزب الله وأصبح قوة عسكرية هائلة جعلت الأقلية الشيعية تمسك بزمام المبادرة في البلاد وتقود الدولة من الخلف، وفي اليمن بدأت جماعة أنصار الله بتثبيت أقدامها كقوة فاعلة، لكنها لم تختر طريقها بالشكل الذي عليه حزب الله، فهم يريدون السيطرة على مقاليد الحكم في اليمن، ومشروعهم لم تتضح معالمه بعد لا سيما بعد الحرب المستمرة منذ خمس سنوات.
أما في العراق فالأمر ينطوي على غموض كبير، لا يوجد فصيل مسلح واحد، ولا فصيلين، ولا حتى 10 فصائل، تتحدث الإحصائيات عن ثلاثين فصيل مسلح، (ينقصون قليلًا أو يزيدون)، هناك منظمة بدر التي تأسست في ثمانينيات القرن الماضي داخل الجمهورية الإسلامية، وعادت للعراق بعد الاحتلال الأمريكي، لكنها شاركت في الحكم وجلس قادتها مسالمين مع الحكومة التي تأسست تحت ظل الوجود الأمريكي، لكن جزءًا آخر من الشيعة لا يريدون الاحتلال ويرفضون الخضوع للأجنبي، لذلك وقف التيار الصدري بقوة وأسس جيش المهدي الذي عارض الاحتلال والحكومة التي تأسست تحت الاحتلال، وخاض معارك طاحنة ضد الجيش العراقي (الحرس الوطني آنذاك) في النجف وكربلاء وبغداد، بعدها تم حل جيش المهدي بأمر من زعيمه السيد مقتدى الصدر، وخلال المدة بين تأسيس جيش المهدي وحله تأسست فصائل شيعية مسلحة، ولم تعلن عن نفسها بشكل واضح إلا خلال الفترة الثانية لحكومة السيد نوري المالكي.
تَزايدَ عددُ الفصائل المسلحة وتَزايدَ تدخلها في الحياة العسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ولم تعد تحارب الاحتلال الخارجي فقط، بل أرادت أن تحجز مكانة ونفوذًا لا يقل شأنًا عن الجيش، وتم لها ما أرادت بعد تأسيس الحشد الشعبي، وأسهمت بدور أساسي في تحرير الأراضي التي احتلها تنظيم داعش، وتبع الحرب قرارات حكومية لدمج الحشد ضمن منظومة الدولة، وهناك من رأى في الدمج تكريمًا لجهود الحشد.
بينما رآه قادة الحشد مؤامرة غربية للسيطرة عليه، القرارات التي أصدرها رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي أعطت الحشد الأفضلية على القوات الأخرى، فهو من جهة تابع للدولة ويأخذ أوامره من رئيس الوزراء، لكنه يتمتع بنوع من الاستقلالية لا سيما مع ارتباطه بقيادة «فصائل المقاومة»، (كل فصيل له لواء أو أكثر).
ورغم الاستقلالية النسبية التي يتمتع بها الحشد الشعبي، لكنه حَذِرٌ من محاولات دمجه في المنظومة الأمنية، تريد الفصائل المسلحة عدم الذوبات كليًّا في دولة كانت قبل عقدين من الزمن تفتك بالشيعية عبر نظامها العسكري، يرى الشيعة أن سيطرتهم على السلطة اليوم لا تمنع خسرانها في أي لحظة لصالح مكونات أخرى يتحول على إثرها عناصر الحشد والجيش والشرطة أدوات لقمعهم كما فعل حزب البعث والأنظمة السياسية التي سبقته.
لذا فلا يمكن أن تقبل فصائل الحشد بالأمر الديواني المرقم 237 من قبل رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي، الذي صدر في الأول من تموز الجاري والقاضي بدمج الحشد نهائيًا بالقوات المسلحة وتطبيق ما ينطبق على الجيش من حيث الرتب العسكرية وإلغاء التسميات المرتبطة بالفصائل واستبدالها بتسميات عسكرية (فرقة، لواء، فوج… إلخ)، لكن هذا الأمر الديواني سبقه أمر السيد حيدر العبادي الذي أقر حصر السلاح بيد الدولة بدون تنفيذ على أمر الواقع، وبقيت «الفصائل المسلحة» لا تسلم سلاحها، وليس في نيتها تسليمه مطلقًا.
بعد أمر عبد المهدي اختلفت التصريحات الإعلامية لفصائل الحشد بين مرحب وناقم، والحقيقة أنها لا تقبل بدمجها بالمنظومة العسكرية، وظهرت لافتات كبيرة في بغداد مكتوب عليها «الحشد عراقي، الحشد باقي»، وأظرهت كتائب حزب الله تسجيلًا قالت إنه لضابط عسكري رفيع يتفق مع المخابرات الأمريكية لتنفيذ «مؤامرة» ضد الحشد، بينما ترفض النجباء إطلاقًا دمجها بالمنظومة الأمنية.
وتكاثرت تساؤلات فصائل الحشد عن سر التركيز على تذويبه في المنظومة العسكرية وعدم دمج قوات البيشمركة بنفس الطريقة، وكأن الشيعة يقولون إنه كان للكرد جيش يحميهم، فلا بد لنا من جيش أيضًا، وإذا لم تقبل الحكومة بذلك سنحوله إلى أمر واقع، وسيكون للشيعة بيشمركتهم الخاصة، أو نجبر الحكومة على تطبيق القرارات مناصفة بين الحشد والبيشمركة.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست