البداية

تاريخيًا نشأت العلاقة الأمريكية-الإسرائيلية نتيجة لحاجة العم سام إلى حليف دائم في المنطقة لحماية مصالحها، فمنذ دخولهم للوطن العربي للبحث عن مصادر الطاقة، وهم يعلمون بأن الشعوب لا ترى فيهم أصدقاء لعدة أسباب دينية وثقافية وأهمها نظامهم الرأسمالي الذي يبيح كل شيء لجني الأرباح، بالمقابل رأى الحكام فيهم قوة لدعم أنظمتهم ماديًا وعسكريًا. أما الكيان الصهيوني فهو أشبه ما يكون بالطفيلي الذي يحتاج لمن يحميه للبقاء، وأيضًا الوحش (الذي يقف خلفه جيش وإمكانيات أقوى دول العالم) لإرعاب خصومه. علاقة المصالح هذه مكنت إسرائيل من كسب دعم أوروبي-أمريكي في البداية، ومنذ العدوان الثلاثي على مصر، بدأت تخفت القوة الأوروبية، وحل مكانها «منفردًا» الدعم الأمريكي، والذي أثبت قدرته على حماية الكيان، بسبب علاقاته مع الدول العربية وقدرته على استخدام السياسة أو القوة لمنع أي تحرك ضد الكيان.

ونعلم جميعًا بأن الرأسمالية هي عماد المجتمع الأمريكي، حيث يعتبر تحقيق الأرباح وجني الأموال هو الالهة لغالبية الشعب الأمريكي، وبالتالي تعتمد العلاقات بين أفراد المجتمع على الأهمية بما ستعود عليهم من نفع، أكثر من أهمية العلاقات الإنسانية أو حتى صلة القرابة، فقد تجد ابن لا يعترف بوالديه بسبب متطلباتهم المادية أو العبء العائلي، وهو تمامًا ما ينعكس على الحكومات، فتجد الولايات المتحدة تقيم وزنًا لكيان صغير استعماري على حساب أمة عربية، ومع أنه يؤثر على مكانتها العالمية، واعتبارها حليفة يخطب ودها، ولكنها لا تكترث لكل ذلك، بل تظهر بمظهر الضحية بأن اللوبيات الصهيونية هي التي تحرك السياسة الأمريكية، وهو إعلاميًا صحيح وفي رأيي بأن الواقع عكس ذلك تمامًا، فوجود هذا الكيان الطفيلي، يتيح لهم تواجد عسكري، وأيضًا إضعاف المنطقة من خلال إطالة أمد النزاع، وأيضًا الاستفادة ماديًا من صفقات الأسلحة، وتوفير الفائض بالميزانية على شكل قروض بفوائد لحلفائهم، وتوفير بيئة للمؤسسات الامريكية للاستثمار والسياحة وغيرها الكثير.

الاستقرار والفوضى

الاستقرار الذي مرت به المنطقة منذ توقيع مصر على معاهدة السلام وتبعتها السلطة الفلسطينية والأردن، كان على موعد بتغير واضح بالسياسة الخارجية للعم سام، فمنذ تولي الرئيس الأمريكي أوباما السلطة في العام 2009، بدأت قواعد اللعبة بالتغير، وبدأ واضحًا أن «الأصدقاء» الأمريكان لا يمكن الاعتماد عليهم، والسبب هو الرأسمالية.

حيث إن السبب الحقيقي وراء خوض الولايات المتحدة الأمريكية النزاعات، هو مصالحها وبالذات الطاقة (النفط)، فالنفط هو اللعنة الحقيقية التي ابتليت بها الأمة بلحظة ضعفها، وهو ما وجده الرئيس أوباما مكلفًا للموازنة الأمريكية وأرواح مواطنيها (الجنود الذين قضوا بنزاعات المنطقة)، والسبب أن النفط الأمريكي المتوقع انتاجه يستطيع توفير الكفاية الذاتية للعم سام، والمعنى أن أمن الطاقة أصبح غير مهدد، وهو ما تضاعف بنسبة 134% خلال عقد من الزمان منذ العام 2009، ووصلت الولايات المتحدة إلى المرتبة الأولى بإنتاج النفط عالميًا عام 2019، لذا تعتبر أهمية النفط الخارجي (صفر) على الأمن القومي الأمريكي.

مما يعني عدم الحاجة للبقاء عسكريًا بأكثر مناطق العالم تأزمًا والتهابًا، وعلى أثرها ترك أوباما المنطقة العربية بلا حماية من أقوى حلفاؤهم، وبالطبع خروج العم سام، أثار شهية الإخوان المسلمون والمعارضين للخروج من مظلة الحكم، إلى الحكم نفسه، وذلك في تونس، ليبيا، ومصر، وهلم جرًا، ولم يكترث صانع القرار الأمريكي كثيرًا بأمن حلفائه ولا بأمن طفلهم المدلل (الكيان الصهيوني) من الإخوان المسلمين أو المعارضين للرؤساء السابقين، وبدأت أسطورة الكيان الصهيوني بأنه من يتحكم بالولايات المتحدة بالسقوط، وحتى أن هذا التوجه الأمريكي قوبل بانتقاد من قبل إسرائيل التي رأت بأن الولايات المتحدة لم تتعامل بشكل جدي مع إيران، وكان هنالك توتر بين إدارة أوباما ونتنياهو.

مع دخول عهد الرئيس ترامب، الذي للوهلة الأولى اظهر أنه صهيوني عتيق، والذي مع الوقت اتضح أكثر بأنه رأسمالي متأصل لأبعد الحدود، فحملته الدعائية وتعهداته لحماية الكيان، وحصاده لأموال العرب، كلها كانت خدمة لبلاده، وبلاده فقط، كيف؟ ببساطة أوضح ترامب لحلف الناتو خلال بداية عهده، بأنه سينسحب عسكريًا من الشرق الأوسط، وبأن على الدول الأوروبية حماية المنطقة من الأموال الأوروبية وناتجهم المحلي من خلال مساهمة أكبر في حلف الناتو، ولكن الأوروبيين رفضوا، وهو ما حمل ترامب على مبادرة أخرى، وهي تشكيل حلف عربي (شبيه بالناتو) لحماية المنطقة وحماية أصدقائه (الكيان) من خلال إشراكهم جميعًا بحرب ضد إيران، وبنفس الوقت تمرير صفقة السلام، حتى لا يعود للكيان أي اعتماد على العم سام. ولكن مخططاته بآت جميعها بالفشل، ولكن هنالك مكاسب لترامب، منها ظهوره كمساند لجميع الحلفاء، وهو ما أتاح له توقيع صفقات السلاح، بالإضافة إلى دعم اللوبيات الصهيونية لحملته الانتخابية الثانية (والتي خسرها).

هل تنتهي العلاقة؟

ومع دخول حقبة الرئيس «بايدن»، واندلاع أحداث الأقصى الأخيرة، أصبح واضحًا تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حليفتها، فالعرف الذي أظهره جميع الرؤساء الأمريكيين بحماية الكيان الصهيوني (كأنه أرض أمريكية) أصبح كالحمل الزائد، فبايدن هاتف النتنياهو، بفظاظة بحسب المصادر المختلفة، وأوضح بايدن بأن صبره قد نفذ، كما أعلمه بضرورة تجنب قتل المدنيين الفلسطينيين، ولم يرسل أي دبلوماسيين للمنطقة لاحتواء النزاع (بسرعة الضوء)؛ مما يظهر بأن الأمريكان يعتبرون بأن كافة مخططاتهم لحل أي نزاع ستبوء بالفشل، وأن الكيان كان لديه فرصة تاريخية لإحلال السلام ولم يرضخوا للضغوط الأمريكية، وهو ما فهمه ترامب قبل بايدن، وكان ترامب يضغط لصفقة مجحفة للجانب الفلسطيني، وهو يعلم جيدًا بأن الصفقة مصيرها الفشل، وحتى تطبيع بعض الدول العربية مع الكيان، كان رغبة من العرب للحصول على حماية أمريكية أو اعترافات متبادلة أو مكاسب اقتصادية لتوقعهم بقرب تخلي العم سام عن علاقة الحب مع الكيان، وبالتالي اعتبروها مكسب قبل التخلي التام عن الكيان، وبعدها يخلق الله ما لا تعلمون.

يظهر بشكل واضح التغير الأمريكي اتجاه إسرائيل من خلال قيام بعض المشاهير «علانية» بتأييد القضية الفلسطينية، ووصلت إلى حد دعم المقاومة المسلحة! وهو ما كان يعتبر خطًا أحمر، وحتى الشعب الأمريكي أصبح يهاجم الكيان الصهيوني والسياسات الأمريكية بالشرق الأوسط وكافة المؤشرات تظهر بأن الولايات المتحدة تسمح للإعلام ومواقع التواصل بمهاجمة الكيان (باستثناء الأدوات الإعلامية التابعة للوبيات الصهيونية)، وتأجيج الشعب الأمريكي على السياسات الأمريكية المناصرة لإسرائيل، ليظهر بأن أمريكا تستجيب لأمتها وتنسحب من مناطق النزاع، وهو ما بدأ فعلًا في العراق وأفغانستان، وأيضًا انسحابهم من قواعد أخرى بالمنطقة العربية. ومؤخرًا، أصبحت اللغة السياسية الأمريكية تشير إلى مصطلحات لم يعهدها الكيان، مثل «نظام الفصل العنصري» و«حقوق الفلسطينيين» ووقف صفقات الأسلحة.

وهنالك بعض العلامات التي بدأت بالظهور خلال العقديين الأخيرين، والتي تشير لانتهاء الكيان أو ضعفه، أولهما ظهور نبوءة لم نسمع عنها قبل بداية الألفية الحالية، وهي زوال إسرائيل خلال العقد الحالي، وعودة إلى التحليل السابق، تبدو النبوءة أقرب لمخطط، فالعم سام كان يعلم جيدًا بأنه عند لحظة معينة سيسقط الكيان الصهيوني من حساباته، فهل تكون هذه نبوءة أم أنها مخطط منشور مسبقًا؟ وثانيها الضربات العسكرية التي تلقاها الكيان خلال الحرب اللبنانية-الإسرائيلية في العام 2006، ماذا فعلت أمريكا كعقاب؟ ومؤخرًا اثبتت الحرب غزة الأخيرة بأن الكيان هو نمر من ورق؟ ماذا لو ضرب الكيان من دولة، هل ستقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي؟ باعتقادي بأنها وقفت مكتوفة الأيدي، فالشباب الأردني، واللبناني، والفلسطيني، والعراقي، كانوا على الحدود (ومنهم من تسلل إلى فلسطين) كانوا يتمنون الشهادة في فلسطين ونصرتها، وكل المؤشرات كانت تدل على وجود ثورة بصدور عارية على الكيان، حينها تحركت الولايات المتحدة لاحتواء الوضع وتجنب الحرب كدولة قوية وليست كحليفة للكيان، حتى أنها فوضت ثلاث دول عربية لاحتواء المقاومة الفلسطينية، قبل دخولها بشكل مباشر.

ختامًا ما تزال الولايات المتحدة تحاول فرض «حل الدولتين»، ولكن يجب توافق جميع الأطراف على السلام، وهو ما لم يحدث سابقًا خلال 100 عام من الصراع، وفي حال تعنت أي طرف سينسحب العم سام من المنطقة بدون النظر خلفه، وستصبح هذه العلاقة المحرمة ماضيًا. وأكثر ما أتمناه ألا يكون هنالك طرف آخر بانتظار الفرصة للحلول مكان العم سام ودعم الكيان، أو اتفاق معد مسبقًا مع الولايات المتحدة، وظهور هذا الطرف كمحرر لفلسطين، أو راعي سلام، ونتبعه نحن الذين عانينا ل100 عام كالخراف، وهدفه الحقيقي هو الطاقة وإمداداتها والتحكم بثروات هذه الأمة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد