ما الذي يتطلبه الأمر للإطاحة بديكتاتور؟ في معرض تأمله في هذه المسألة في المنفى، كتب ليون تروتسكي في تاريخ الثورة الروسية. 1930.

لا شك في أن مصير كل ثورة في مرحلة معينة يتقرر بحدوث تحوّل في موقف الجيش.. وهكذا في الشوارع والميادين، فوق الجسور، وعند بوابات الثكنات، يتم شن صراع لا يتوقف – يبدو في الوقت الحاضر دراماتيكيًا، وغير ملحوظ – ولكنه دائمًا كفاح يائس، من أجل الفوز بقلب الجندي.

مهما بدا من تفرّد قوة زعيم استبدادي ما، إلا أن الديكتاتوريات لا تحكم وحدها أبدًا، فعندما يتهرّب عناصر الجهات التنفيذية من أداء واجبهم أو يثورون، ينهار النظام. وعندما يظلّون على ولائهم، يستمر النظام. لذلك فإن الاحتجاجات الجماهيرية وحدها ليست كافية أبدًا.

خلال الثورة التونسية، بدأ التمرد الذي أدى في نهاية المطاف إلى فرار الرئيس زين العابدين بن علي من السلطة في 14 يناير (كانون الثاني) 2011 في وحدة شرطة نخبوية تم نشرها بشكل استثنائي لحماية وزارة الداخلية من أكبر مظاهرة حدثت حتى هذا التاريخ. وعندما سار المتظاهرون إلى القصر الرئاسي، انتشر العصيان إلى قوات الأمن الأخرى، واضطر بن علي إلى الفرار بعد ساعات، فعندما انقلبت الشرطة، سقط النظام.

يُعد السبب وراء قرار القوات العسكرية وقوات الشرطة اتباع مسار على مسار آخر أمرًا غير مفهوم تمامًا. إن التفسيرات السائدة للانشقاق العسكري خلال الانتفاضات الثورية تؤكد أسباب المصالح الشخصية أو التجارية. وحسب هذا المنطق، تؤثر المظالم على عمل الضباط المتمردين، الذين يأملون في الحصول على تعامل أفضل في نظام سياسي جديد. كما يسعى الموالون، من جانبهم، إلى الحفاظ على مزاياهم المادية.

ووراء هذه الواقعية الصعبة على غرار فلسفة هوبز – تفترض نظرية الواقعية السياسية حسب توماس هوبز أن الأمم والسياسيين يسعون فقط وراء السلطة أو المصلحة الذاتية -تستند الحجّة إلى حساب بسيط ومنطقي: فالناس يفعلون ما هو أكثر فائدة لهم، لكن هذه الحُجّة تواجه صعوبة في تفسير السبب الذي يجعل الرجال الذين كرّسوا حياتهم المهنية لخدمة الحكومة والذين صاغوا هويتهم المهنية على أساس من الانضباط يقومون بالانقلاب وعصيان النظام. ولا تعطينا هذه الحجّة أي وصف لكيفية تغيير أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن لتفهمهم لمصالحهم عندما يواجهون اضطرابات جماعية.

إن قرار التمرد بعيد كل البعد عن تنفيذ مصالح مادية واضحة ومفهومة جيدًا. كما أنه من السهل أيضًا التغاضي عن مدى عمق المعضلة الأخلاقية التي يمكن أن يشكّلها القمع الجماعي بالنسبة للجنود ورجال الشرطة. يمكنك أن تتخيل بلد ما في خضم انتفاضة واسعة النطاق. ويملأ عشرات أو مئات الآلاف من المتظاهرين شوارع العاصمة. ولم يعد بإمكان الحاكم الاستبدادي الاعتماد على شرطته السرية ووحدات الاستجابة لمكافحة الشغب. ويجب عليه استدعاء قوات الاحتياط، والتي عادةً ما تحمل الذخيرة الحية، وليس لديها أي تدريب أو خبرة في التعامل مع الحشود. هؤلاء الرجال يواجهون خيارًا قاسيًا، فالدفاع عن النظام يأتي على حساب إراقة الكثير من الدماء. في المقابل فإن التهرّب من أداء الواجب أو التمرد يحمل خطر الخضوع للمحاكمة العسكرية والموت.

وحتى بالنسبة لأولئك العناصر الذين يمتلكون خبرة في القمع، فإن التورط في قتل عشرات أو مئات الأبرياء غالبًا ما يكون احتمالًا غير محبب إلى حد بعيد. فالمعضلة إذن أخلاقية وفردية في المقام الأول: فهي تنم عن خيار قاسي بين خدمة حكومة المرء وبين خدمة بلده. ولكن سرعان ما تصبح هذه المعضلة جماعية. عندما يدرك ضابط ما أنه ليس وحده أمام هذه المعضلة، فإنه يبدأ في التساؤل عما إذا كان زملاؤه سيتبعون الأوامر، وانطلاقًا من هذا الشك يبدأ احتمال عصيانه الفردي بالتشكل.

ونادرًا ما يندلع التمرد العسكري والشرطي في مواجهة المظاهرات الصغيرة، ولكن يحدث ذلك بشكل مؤكد عندما تصل الانتفاضات الثورية إلى أعداد ضخمة؛ مما يجعل من القتل عديم الضمير على نطاق واسع الخيار الوحيد للبقاء أمام الحكومة. وفي هذا العام، تحدى المتظاهرون المنتشرون في السودان قوات الأمن لأكثر من ثلاثة أشهر دون أن يتسببوا في انشقاقات واسعة النطاق. ولكن عندما تجمعت المعارضة في اعتصام أمام مقر الجيش في 6 نيسان/أبريل، تردد الجنود. وفي اليوم الثاني، قاموا بحماية المتظاهرين ضد الميليشيات الموالية للنظام. وفي 12 أبريل (نيسان)، انقلبت الأجهزة العسكرية والأمنية ضد الرئيس عمر البشير.

وغالبًا ما تنتشر الثورات التي تبدأ خلال الانتفاضات كانتشار النار بالهشيم في جميع أنحاء الأجهزة العسكرية والأمنية. بدأت الثورة الروسية في عام 1917 عندما رفض فوج فولينسكي – كان فوجًا تابعًا للحرس الامبراطوري الروسي ولعب دورًا رئيسيًا في ثورة فبراير – «أن يخدموا كجلادين بعد الآن»، كما ذكر المؤرخ السوفياتي إدوارد بوردزهالوف في عام 1967. ثم انتشر التمرد بسرعة إلى أفواج مجاورة في بتروغراد. حيث كتب بوردزهالوف أنه بحلول المساء «لم يكن بإمكان أي جنرال قيصري أن يتولى مسؤولية الوضع لإنقاذ الاستبداد».

ومع ذلك سيكون من الخطأ قراءة هذه الديناميات كنتائج للمظالم واسعة النطاق وطويلة الأمد داخل القوات المسلحة وقوات الأمن في المقام الأول، بل تعود تلك الديناميات بشكل أكبر، بدلًا عن ذلك، إلى محاولات الضباط للانحياز إلى زعيم آخر. وبمجرد بدء التمرد، فإن خطر العنف بين الأشقاء بين الموالين والمتمردين يثقل كاهل حسابات الضباط. وغالبًا ما يساير الموالون المحتملون تمردًا ما لتجنب الاقتتال الداخلي. في تونس حشد رئيس حركة التمرد ضد بن علي وحدتين إضافيتين من خلال التظاهر بالعمل بناءً على أوامر؛ وعندما فهم زملاؤه أنه كذب بهذا الشأن، ظلوا إلى جانبه بدلًا عن أن يحولوا أسلحتهم ضده. وبعد دقائق، أقنع رئيس الأمن ابن علي، وهو من الموالين، الرئيس بالصعود على متن طائرة إلى المملكة العربية السعودية، قائلًا إنه يخشى حدوث «حمام دم».

وفي حالات أخرى، سيمتنع المتمردون المحتملون عن الانضمام إلى تمرد يعتقدون أنه سيفشل. ففي الصين، انحازت القوات إلى المتظاهرين في ساحة تيانانمن في عام 1989، في حين أدان الضباط علنًا قرار الحكومة بإعلان الأحكام العرفية. وعلى الرغم من هذا التذبذب، لم يأخذ أي ضابط زمام المبادرة إلى شن تمرد مفتوح. واستعادت الحكومة زمام المبادرة وسحقت الانتفاضة بشكل حاسم.

حسب لغة نظرية الألعاب، تشبه حركات التمرد ألعاب التنسيق: في الحالات التي يسعى فيها الأفراد إلى اتباع نفس خط السلوك على حساب تفضيلاتهم الخاصة لأن العمل وفق أهداف متقاطعة يمثل أسوأ نتيجة ممكنة للجميع، في تلك الحالات يجب على كل منهم معرفة ما سيفعله الآخرون، وهذا هو السبب في أن التوقعات – المعتقدات المتبادلة حول ما يأتي بعد ذلك – تكون الدافع وراء السلوك. وسواء نجح المتمردون في اللحظات الثورية أو فشلوا، فإن ذلك النجاح أو الفشل يرجع إلى قدرة المتمردين على خلق انطباع بأنهم سينجحون حتمًا أكثر مما يرجع إلى مظالم زملائهم الموجودة سابقًا.

ولهذه الفكرة آثار معرفية عميقة على فهمنا للنتائج الثورية. حيث غالبًا ما تبدأ الانتفاضات بطرق مماثلة ولكنها تأخذ مسارات مختلفة بشكل كبير، من الثورات السياسية إلى استعادة الاستبداد والحرب الأهلية والثورات الاجتماعية. تسعى التحليلات العلمية الاجتماعية للثورات عادةً إلى رؤية ما وراء اضطراب الأحداث للكشف عن أنماط خفية من العلاقة السببية التي تربط العوامل بطيئة الحركة – مثل تكوين الطبقات الاجتماعية، وهيكلية الدولة، والظروف الاقتصادية – بالنتائج المختلفة لتلك الثورات. ولكن إذا قامت القوات المسلحة بثورات أو إفشالها، وإذا كان موقفها ناجمًا عن الأحداث التي تحدث على النطاق الزمني لساعات أو حتى دقائق، فإن القيمة التفسيرية لهذه الحسابات «الهيكلية» للثورات تفقد الكثير من ميزتها. ولتفسير سبب اختلاف البلدان، نحتاج بدلًا عن ذلك إلى تطوير نظريات أفضل فيما يتعلق بأثر الأحداث الثورية النموذجية، مثل الاحتجاجات الجماهيرية والانشقاقات والتمردات.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد