ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل هوية افتراضية للأشخاص واستعراض الذات عبر مختلف الطرق التعبيرية من صور ونصوص وفيديوهات، وجاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتحيي أطروحة يورغن هابرماس المعروفة بالفضاء العمومي الذي نشأ حسب هابرماس في القرن الثامن عشر ميلادي، وكان يعرف بالفضاء العمومي البورجوازي، فكانت الطبقة البورجوازية وقتها تناقش قضايا الشأن العام من خلال الاطلاع على الصحف وفق حيز معنوي هدفه تسيير الشأن العام وقبلها في عصر الإغريق كانوا يناقشون قضاياهم في ساحات عمومية يجتمع فيها كافة سكان المدينة للتباحث في شؤونهم العامة، وتنفيذ أحكام الإعدام، وإقامة الاحتفالات، وغيرها من النشاطات، وبعد عقود من الزمن عادت أطروحة يورغن هابرماس للواجهة من جديد بظهور مختلف مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك وتويتر وإنستجرام» وظهور ما يسمى بالمجتمع الشبكي الإلكتروني، وأصبح المفكرون في علوم الإعلام الاتصال يفرقون بين الفضاء العمومي التقليدي الذي انهار عندما طرأ على الصحافة التسليع الثقافي (سلعنة المضامين الإعلامية) وانتقالها من صحافة الرأي إلى صحافة تجارية، وتسويقية، وإشهارية، والفضاء العمومي الافتراضي الذي تم تمييزه عن التقليدي بفروقات كثيرة.

لقد وضع هابرماس العديد من الشروط لنجاح الفضاء العمومي منها شبكية المجتمع ودرجة وصول وانتشار هذا المجال العام ومدى حرية التعبير والديمقراطية في كل مجتمع وفعالية مشاركة الفرد في مجتمعه، سواء من خلال الواقع، مثل انخراطه في الجمعيات، والأحزاب، أو على شبكة الإنترنت من خلال انضمامه كمستخدم في المجموعات الإلكترونية، وبظهور مواقع التواصل تم تحقيق هذه الشروط فأصبحنا نشاهد نخب سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، جديدة ذاع صيتها عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وما زاد في ذلك هو سهولة استخدامها وتكلفتها المنخفضة وشيوعها وانتشارها بين مختلف جمهور المستخدمين، وكمثال في الجزائر نجد ظهور شخصيات معينة افتراضيًا، ولا وجود لها في أرض الواقع شقت طريقها إلى الشهرة، ومنها ما ظهر افتراضيًا وصنع مكانة له في الواقع على غرار المدونين ومشرفي الصفحات على «فيسبوك»، حتى أصبحت مواقع التواصل مسرحًا لحملات انتخابية مثل الحملة الانتخابية لرئاسيات الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2016 حيث لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا فعالًا في تغيير نتيجة الانتخابات لصالح المرشح الجمهوري دونالد ترامب على حساب المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وهذا باعتراف الأجهزة الأمنية الأمريكية نفسها، وتم فتح تحقيق مفصل في القضية تحت قيادة المحقق مولر. وحفلات فنية واجتماعات أكاديمية وسياسية واقتصادية وقمم دولية تجمع مختلف زعماء العالم عبر منصات التواصل الاجتماعي وملتقيات وغيرها خاصة في ظل انتشار وباء كورونا الذي ساهم في تعزيز الحيز المعنوي الذي يتم فيه النقاش في مختلف شؤون البلاد والمجتمعات والقضايا الكونية وهذا ما تحدث عنه هابرماس منذ سنة 1960، وفي الجزائر أصبحت الحكومة تعقد اجتماعات عبر تقنية التحاضر عن بعد وفي الجامعات كذلك؛ فتحول المجتمع من الحيز الواقعي إلى الحيز الافتراضي، وأصبح الفرد عبارة عن مستخدم افتراضي.

لقد ساهم وباء كورونا الذي بدأ في الانتشار منذ شهر فيفري الفارط ساهم في إعادة أطروحة يورغن هابرماس الموسومة بالفضاء العمومي الافتراضي بقوة، وعلى مدار ما يقارب سنة بالكامل من تفشي وباء كورونا المستجد، وأدركت المجتمعات والشعوب ضرورة التباعد الاجتماعي، والتقيد بالإجراءات الصحية للحفاظ على الأمن الصحي المجتمعي، لكن في نفس الوقت وجد نفسه مجبرًا على مواصلة مختلف النقاشات وتسيير شؤون البلاد ومواصلة سير الدراسة، وفتح المدارس، ومختلف الهيئات، ولا يتحقق ذلك إلا بالاستعانة بتكنولوجيا الاتصال الحديثة على غرار تقنية التواصل عبر الفيديو وعبر المنشورات والمجموعات والصفحات على «فيسبوك» و«تويتر» ومختلف الطرق التعبيرية.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

المصادر

تحميل المزيد