منذ 50 عامًا، علمتني شوارع ليننغراد شيئًا واحدًا، أنه إن كان هناك شجار حتمي، فإنه لا مفر أمامك سوى أن تبدأ بالقتال أولا.

هكذا صرح فلاديمير بوتين قيصر الروس كما يدعونه في إحدى المناسبات الدولية عندما كان في يسر من حاله يجعله يفخر بسوء أخلاقه وماضيه المتعربد العنيف وتشرده الواضح ولكن عندما استخدم منطقه العفن هذا بسوريا ووجد تطبيلا واسعا من قطيعه وممن يسير معه من العربان أخذه ماضيه إلى التحرش بالعثمانيين الجدد فلقي ما لقي، فالأتراك ما لبسوا أن لطموه علي جبينه فشوهوا معالم وجهه فأظهرت لنا وجهًا قبيحًا سفاحًا بشعًا يبغض الإسلام والمسلمين، هكذا ترى الخداع من كشف القناع فترى الخنوع والعويل من بعد التهديد والوعيد.

هكذا هي العاهرة عندما يخزلها الزمان، عقوبات روسيا الاتحادية الاقتصادية والسياسية ضد تركيا محاولة يائسة من بوتين لحفظ ماء الوجه خاصة مع ضيق خيارات روسيا السياسية والعسكرية والاقتصادية أيضا، وعدم قدرتها على الرد عسكريا بشكل حاسم لحفظ كبريائها الدولي على الأقل لعدة عوامل شديدة التأثير.

أولها

تذبذب اقتصاد الروس المعتمد على النفط والغاز بشكل أساسي وجوهري، وإنهاكه في معارك مستمرة مع دول الخليج المنتجة للنفط بقيادة المملكة العربية السعودية؛ مما أدى إلى نزيف اقتصادي كبير وصداع مزمن للروس والإيرانيين أيضا بعد أن فقد النفط قرابة 60% من قيمته بعد أن ضاعف الخليج إنتاجه فتهاوت بورصة النفط عالميا وخسرته ما يزيد عن نصف قيمته.

عسكريا: إن أي محاولة بائسة من الروس للتحرش عسكريا بدولة قوية وفاعلة بحلف الناتو هو ضرب من الانتحار، محاربة 25 دولة في طليعتهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ولا يخفى على أحد تخلف الروس عسكريا واقتصاديا عن الغرب بمراحل ضوئية فهم أدرى الناس بحمارهم العليل.

يتأثر اقتصاد الروس بخسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات إن فقدت استثمارات تركيا في السوق الروسي فتلويح الروس بورقة منع السياحة الروسية عن تركيا سيقابلها منع استيراد تركيا للغاز الروسي مع إلغاء مشاريع مستقبلية بعشرات مليارات الدولارات في مجالات الطاقة والدفاع، وستكون الدولتان قد اختلفتا بضربتين فالروس حينها خسارتهم كبيرة عكس الأتراك لتوفر البدائل ففي مجال الغاز هناك قطر حليفة تركيا الرئيسية في المنطقة ستكون على أهبة الاستعداد إن طلبت منها تركيا ذاك، وبعض المصادر تؤكد وجود مذكرة تفاهم في هذا الشأن حملها السلطان الجديد أردوغان معه في زيارته لدولة قطر وستسعى إيران ودول خليجية أخرى للفوز بصفقة رابحة كهذه.

وفي المجال السياحي الأتراك لا يعتمدون على السياح الروس بشكل مباشر وأساسي كالمصريين بشكل تام قد يشل قطاع بأكمله كما حدث بمصر بعد حادثة الطائرة الروسية المنكوبة في حال منعت روسيا مواطنيها من القدوم لتركيا لكن هناك تنوع في السياحة التركية تجعلها قادرة على استيعاب عدم قدوم السياح الروس إليها، فالأتراك ليسوا بأغبياء حتى يقدموا على التصارع مع روسيا دون نظر لردة فعل الدب الروسي وخيارته المتاحة.

الروس يلعبون السياسة بمبدأ الدب الأبيض قوتي تكفي فمناورتهم ضعيفة وتصريحاتهم أكثرها هراء غير منطقي ومتضاربة للغاية فاستبدلوا الذكاء والحنكة السياسية بالعنجهية والغرور السوفيتي البائد؛ فصاروا يقعون في حفر قد وقعوا فيها بالماضي تجرعوا المر العلقم ما زالوا يعالجون آثارها الدامية في وجه دولتهم الشمطاء، إن تورط الروس عسكريا داخل المستنقع السوري هو كتورط الاتحاد السوفيتي في مستنقع أفغانستان سابقا، وهي التجربة التي قصمت ظهر السوفييت وفتت اتحادهم وذهبت بعصبيتهم إلى غير رجعة لمزابل التاريخ على يد بضعة آلاف مجاهد مسلم ما زالت ذكراها حاضرة ولم تجف معها دماء عشرات الآلاف الجنود السوفييت التي ابتلعتهم هذه الأرض وقذفت بهم لمزابل الجحيم في غير رجعة في ظروف مشابهة، بل هي نفس الظروف تقريبا فالاتحاد السوفيتي كان وضعه الاقتصادي سيء للغاية أيضا بسبب حرب النفط التي تهاوي الاتحاد السوفيتي سريعا بسببها.

وكان غزو الأفغان هي القشة التي قصمت ظهر السوفييت وقتها وانحلال عقده وما أشبه اليوم بالبارحة فالروس بقيادة بوتين كولونيل الكاجي بي السوفيتي يخوضون حربا ضروسا يختلط فيها النفوذ بالبقاء على عدة جبهات أرقت مضاجع الروس فأكبر معاركهم هي معركة تهاوي أسعار النفط التي يشنها الخليجيون بقيادة آل سعود قد أثنخت الجراح بالروس ومما أزاد الطين بلة تهاوي الشيعة العلويين وفقدانهم السيطرة مبكرا وتحطم جيش حليفهم الأسد الصغير الابن بسوريا الجريحة وسيطرة الإيرانيين عليه مع فقدانه 70% من أراضي سوريا مع تحطم جيشه وسرعة تهاوي نظامه تحت نعال الثوار السوريين بطريقة أرقت مضاجع الروس بسبب الخوف على مصالحهم السياسية الممتزجة بالطابع العسكري في ظل تخوف الروس من فقدانهم موطئ قدمهم الأخير في المياه الدافئة شرق المتوسط خاصة قواعد وموانئ الروس بمدينة طرطوس واللاذقية قد أصاب سياسيهم الجنون المزمن فصبوا حقدهم النازي الفاشي على الثورة والسنة وأعطوا الشرعية والسلاح والغطاء للمذابح والمجازر التي يقوم بها السفاح بشار الأسد قواد روسيا في المنطقة.

تأزم وضع الروس يرجع لغبائهم السياسي وعدم مرونتهم السياسية في التعاطي مع الأزمات الدولية واعتمادهم على حلفاء ضعفاء دائما لا نفع لهم ولا وزن عندما تتأزم المواقف.

فتدخل الروس عسكريا لإنقاذ قوادهم الأسد سيجعل منهم صيدا سهلا للأتراك والأمريكان والعرب مثلما حدث مع السوفييت في مطلع التسعينيات، وزاد عليه الأتراك الذين سيحاربون الروس بكل أتباعهم داخل سوريا قتال المستميت حتى آخر رصاصة وفي معارك حماة خير مثال.

فتصريح الأمريكان اليوم بأن المقاتلة الروسية التي هلكت وأحد طياريها بالقرب من جبال التركمان قد اخترقت الحدود التركية وأن كل الدلائل والبراهين تشير إلى هذا حسب قولهم رسالة مفادها أن واشنطن لن تترك تركيا وحدها إذا اقتضت الضرورة ليس حبا بها، ولكن حفاظا على مصداقية حلف الناتو التي تكون تركيا من أبرز أعضائه، هذه التصريحات هي خط أحمر للدب الروسي، إن تقدمت ينتظرك الأتراك وكل ما لا طاقة لك به أيها الدب الغبي البدين.

ويتضح لنا جميعا من متابعتنا لردة الفعل الدب الروسي على بعثرة الأتراك لكرامته غير تصريحات ثأرة لم تخرج عن الجعجعة السياسية والتصريحات السياسية الرنانة دون فعل يذكر، مع مزيد من الشجب والاستنكار والإدانة والعويل لإرضاء الجبهة الداخلية ومحاولة الحفاظ على ما تبقي من كبريائها الدولي، ولكن هيهات بعد أن نجح الأتراك في ترويض الدب الروسي والتمعن في إذلاله وتوقع ردة أفعاله وتحجيمها جعل زمام المبادرة بيد الأتراك فزادهم مرونة وسعة من أمرهم عكس آل بوتين ما زادوا إلا خسارا.

فما في جعبة بوتين ورفاقه لا يمكنه إلا لفعل شيء واحد، وهو الخروج من دوامة الخسائر التي مني بها ورفاقه و السير إلى التهدئة مع الأتراك ومحاولة ترميم العلاقات التي عصفت بها أزمة السوخوي 24 ومنع الأمور من التفاقم و السوء لأن هذا الأمر لا يصب في صالحهم ولا في مصلحة الآخرين أن تتطور هذه الأزمة إلى أموار لا تحمد نتائجها على كل الأطراف مما يوجب على بوتين القبول بالأمر الواقع إلى إشعار آخر.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست

عرض التعليقات
تحميل المزيد